كتب: محسن حسن
ترتبط المملكة العربية السعودية بعلاقات مرنة ومتطورة مع الغالبية العظمى من دول العالم، وهي علاقات تراعي دائماً مقتضيات التوازن بين ضرورات تحقيق المصلحة الوطنية من جهة، وعدم التورط في سجالات الصدام والتنافس المحموم بين القوى الكبرى نحو الهيمنة والاستحواذ، وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية (الشريك الاستراتيجي المقرب للمملكة) وروسيا (الشريك الاقتصادي المتطور للمملكة)، من جهة ثانية.
وقد شهدت الآونة الأخيرة، وعلى وجه الخصوص، منذ وصول إدارة الرئيس السابق (جو بايدن) إلى البيت الأبيض، انسلاخاً أمريكياً غير مسبوق من قضايا منطقة الخليج والشرق الأوسط بصفة عامة، ما أدى إلى جفاء مشوب بالحذر والترقب وربما الاستياء في بعض الأحيان، بين القيادتين السعودية والأمريكية، نظراً لعدم مراعاة تلك الإدارة لما تقتضيه الشراكة الفاعلة بين واشنطن والرياض، من تلبية الكثير من الاحتياجات الأمنية واللوجيستية والتقنية التي طلبتها الثانية من الأولى.
وهذه الاحتياجات كان على رأسها المطالبة بشراكة أمنية فاعلة بين البلدين، ونقل الخبرات التقنية والعسكرية، إلى جانب دعم احتياجات البرنامج النووي السلمي في المملكة، وهي الاحتياجات التي ماطلت فيها إدارة الرئيس بايدن كثيراً، ما ترتب عليه تعزيز علاقات المملكة أكثر مع الجانب الروسي على مدار المدة التي استمرت خلالها هذه الإدارة في مباشرة منصبها السياسي في الولايات المتحدة؛ حيث كان لتكتل بريكس الاقتصادي الشامل، والذي تقوده روسيا بهدف تطويق النفوذ الاقتصادي الأمريكي في المنطقة والعالم، والذي انضمت إليه السعودية مؤخراً، الدور الأبرز في بروز ملامح التقارب الإيجابي والفعال بين الرياض وموسكو، وذلك على خلفية الانكماش الأمريكي الذي أسسته إدارة بايدن تجاه المنطقة وقضاياها، إلى جانب ما فرضته الحرب الروسية الأوكرانية من تحريك أوراق المبادرات السياسية والاستراتيجية غير المتوقعة بين القوى الإقليمية والدولية المختلفة، وهي الأوراق التي لعبت فيها الصين وروسيا الدور الأبرز نحو التوظيف والاستغلال والتعاطي الأقرب إلى تأسيس شراكات جديدة وفاعلة على مستوى الاقتصاد والأمن والتكتلات الوليدة والاستراتيجية.
واليوم، تمر المنطقة بمنعطف جديد على أكثر من جبهة، ألا وهو منعطف التحولات الناجمة عن مستجدات الوضع في الجبهة السورية ونظيرتها اللبنانية، جنباً إلى جنب، مع تداعيات الحروب المشتعلة على أكثر من صعيد، سواء في منطقة الشرق الأوسط وما يحيط بها من تطورات الصراع العربي والقضية الفلسطينية، أو على صعيد الصراع الأمريكي الروسي عبر الساحة الأوكرانية، وكذلك الحال بالنسبة لمستجدات الوضع في الداخل الإيراني، والذي يمر بمرحلة أقرب إلى الانتقالية منها إلى الرسوخ والاستقرار، وخاصة بعد ذهاب رئيس وانتخاب آخر، بالتزامن مع ما تمخضت عنه الأحداث مجملة، من تعرية النفوذ الإيراني وتقليصه في كل من لبنان وسوريا، بل في المنطقة ككل، ما تتهيأ معه الأوضاع الإقليمية والدولية لسيناريوهات وتحولات جديدة، ستكون خلالها العلاقات السعودية الروسية على مفترق طرق، إما نحو توطين وتعبيد هذه الطرق فيما يتعلق بالمسار المستقبلي لتوجهات السياسات العامة والخاصة داخل دول المنطقة، أو نحو توسيع هوة الخلاف بشأن تلك التوجهات.
وهذا مجملاً، سوف تلعب فيه تطورات الوضعين السوري واللبناني دوراً محورياً ربما سيفضي إلى بروز لاعبين سياسيين جدد على الساحة الإقليمية والدولية، وربما يستدعي أيضاً نوعاً من التعاطي السياسي الاختباري والاستكشافي والمرحلي تجاه قضايا المنطقة وعلاقاتها المتبادلة على المستوى الخارجي والدولي، وفي هذا السياق، غالباً ما ستكون ردود الأفعال غير المتوقعة بل والصادمة، هي السمة المهيمنة على لغة الحوار المتبادل بين كافة اللاعبين إقليمياً ودولياً، ريثما تستقر ملامح الأوضاع ويتكشف غثها من سمينها من وجهة نظر الأطراف جميعها، وخاصة في ظل قدوم الإدارة الأمريكية العائدة إلى البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب، والتي ستكون مواقفها محددة حتماً لمواقف الآخرين تجاهها وتجاه عموم القضايا الإقليمية والدولية ككل.
الاقتصاد أولاً
وقبل الخوض في تفاصيل العلاقات المتوقعة بين الأطراف والفاعلين في المنطقة والعالم، ومنها علاقات الرياض/موسكو، لابد من التأكيد أولاً على أنه وللمرة الأولى تقريباً، يشكل التوجه الاقتصادي أولوية حتمية للإدارات السياسية في العالم أجمع، فبعد أن كانت الاعتبارت السياسية والانتماءات الحزبية هي المحرك الأول لقرارات الإدارات الحاكمة في العالم، نلمح تقهقراً لتلك الاعتبارت لصالح الأولوية الاقتصادية، أي أن المؤشرات المحلية والإقليمية والدولية الراهنة والمستقبلية، يرجح لها أن تؤسس لتمدد المصالح الاقتصادية وهيمنتها على مجمل السلوك والقرار السياسي الصادر عن الحكام والدول.
وما سبق معناه أن الاقتصاد سيتحكم في السياسة هذه المرة، ولن يكون تابعاً لها كما كان في السابق، وفي الحقيقة، هذا ما يتماشى مع أزمة النظام العالمي الجديد، والذي باتت فيه الدول والشعوب تعاني أزمات اقتصادية خانقة، تجبر المسؤولين والحكام على إيجاد الحلول أو الانشغال بالعمل على إيجادها حماية للمصالح السياسية، ومن ثم، فإن المتوقع خلال المرحلة الراهنة وما بعدها.
أي خلال العقد القادم على أقل تقدير، سيستحوذ التوجه الاقتصادي على مجمل المسارات الثنائية المتبادلة بين الدول ضمن سياق علاقاتها الخارجية، وبشكل ستبدو معه الاعتبارات السياسية مجرد خلفية مراوغة، وستارة رقيقة للتعبير عن حدث هنا أو حدث هناك، وبالطبع ليست العلاقات السعودية/الروسية، ببعيدة عن هذا الطرح؛ لأن الوضع الدولي بكل بساطة وأريحية، أصبح مرهوناً بهذا التوجه الاقتصادي الغالب.
روسيا بلا غطاء
وفي حال نظرنا إلى مستقبل العلاقات الروسية السعودية من وجهة النظر الروسية، فإن الإدارة السورية الجديدة ومعها رحيل الأسد، قد قاماً بتعرية النظام السياسي الروسي في المنطقة فجأة وعلى غير توقع سابق؛ فبعد أن كانت سوريا تمثل إحدى ركائز السياسات الروسية في المنطقة عبر الشراكة مع إيران، استحالت الأوضاع معاكسة للسابق تماماً، وعلى مسار نحو وجهة مختلفة قد يترتب عليها لاحقاً، فتح المجال واسعاً أمام عودة النفوذ الأمريكي في مناطق النفوذ الروسي السابق والمتدهور بفعل الوضع السوري الجديد، وخاصة في ظل الموقف السعودي الداعم لاستقرار سوريا ولوحدة شعبها وأرضها، واستقبال المملكة مؤخراً وفداً سوريا رفيع المستوى في الرياض لبحث أوجه التعاطي المستقبلي بين البلدين، الأمر الذي يعني بالنسبة لروسيا، فقدان الكثير من آليات توجيه الوضع الإقليمي نحو أهدافها الخاصة والاستراتيجية المرتبطة بصراعها الدائم مع النفوذ الأمريكي وطروحات البيت الأبيض.
وبالتالي فإن هذه الوضعية هي في صالح الدور السعودي بكل تأكيد، لأن التقارب السعودي السوري، سيقدم للمنطقة وسيطاً غير عدائي هو السعودية، بحيث تستطيع مستقبلاً توظيف هذه الوساطة في ضبط ميزان كل من التعاطي الروسي والأمريكي مع قضايا المنطقة، كما سيكون لهذا الدور السعودي الجديد، أهميته في فتح آفاق وأنماط متعددة من التعاون الاقتصادي والأمني والاستراتيجي مع القوى الكبرى في العالم ومنها الصين إلى جانب القطبين الكبيرين أمريكا وروسيا، وفي كل الأحوال، ستظل المرحلة القادمة من قبيل مراحل الاختبار لكيفية التعاطي الروسي مع جميع الأطراف في هذا الإطار، وخاصة سوريا والمملكة العربية السعودية.
ضبط لا قطيعة
وإذا كان مسار العلاقات الدولية، دوما ما يضعنا أمام اعتبار المصلحة في كل خطوة من خطوات الدول والحكومات، فإن وجهة النظر السعودية في علاقاتها مع روسيا الاتحادية، ترى المصلحة حتماً في الإبقاء على شعرة معاوية بخصوص هذه العلاقة، وذلك نظراً للدروس التاريخية المستفادة من التحولات المفاجئة للإدارات السياسية لدى دول العالم أجمع، وفق متغيرات الأحداث والأوضاع، ولكن على أية حال، لا يمكن أن تمنحنا المعطيات والقناعات المصالحية وحتى السياسية الراهنة، أي توقع من شأنه الجزم بإمكانية انحسار العلاقات التاريخية بين موسكو والرياض، وهي العلاقات الممتدة منذ العام 1926 عندما تصدرت روسيا واجهة الإقرار والاعتراف الدولي الأول بالمملكة العربية السعودية، ومن ثم، فإن الرياض ترى في العلاقة مع روسيا، منفذاً إيجابياً نحو إقرار الاستقرار والتوازن في العلاقات الدولية لمنطقة الخليج والشرق الأوسط بعموم دول العالم وخاصة القوى النافذة والدول القوية والمتقدمة.
وهذا هو ما يرجح تمسك الرياض بهذه العلاقة حالاً ومستقبلاً، ولكن في إطار من ضبط هذه العلاقة في التوازنات الخاصة والعامة التي تراها المملكة لازمة من أجل تحقيق مصالحها ومصالح شعبها إلى جانب تحقيق أمنها وأمن المنطقة، غير أن مقتضيات الوضعين الأمريكي والسوري الراهنين، تصب حتماً في إطار توسيع العلاقات السعودية الأمريكية، على حساب العلاقات السعودية الروسية؛ إذ أن إدارة ترامب مألوفة ومفضلة على مستوى التعاطي السياسي والدولي لدى القيادة السعودية وفي القلب منها الأمير محمد بن سلمان، في حين يبقى مستوى التعاطي مع إدارة بوتين الروسية، محفوفاً بالشكوك والتأرجح وعدم الثبات، نظراً لطبيعة العلاقات الروسية ونمطيتها النفعية مع دول الخليج ودول المنطقة ككل، جنباً إلى جنب، مع تماسها المريب مع النفوذ الإيراني المعوق للاستقرار والمتداخل قسراً مع الشؤون والأوضاع الداخلية للشعوب على أكثر من صعيد، ما يجعل من العلاقات السعودية الأمريكية أكثر انفتاحاً ووضوحاً من علاقة الرياض/موسكو، خاصة في ظل الأوضاع والمتغيرات الراهنة على الصعيدين السوري واللبناني.
اقرأ أيضاً: انطلاق اجتماعات الرياض الوزارية بشأن سوريا
محددات وشكوك
وعلى الرغم من الجزم بأهمية استمرار العلاقات السعودية الروسية، بالنسبة لتحقيق المصالح المتبادلة بين البلدين من جهة، والمصالح الخاصة بأمن واستقرار المنطقة وشعوبها من جهة أخرى، لا يسعنا إلا التأكيد على أن هذه العلاقات ستظل مرهونة من حيث الانفتاح والانحسار، أو الصعود والهبوط، بمدى ما ستتخذه إدارة بوتين تجاه الوضع السوري واللبناني واليمني والإيراني خلال المستقبل القريب؛ ففي حال اتخذت الإدارة الروسية خطوات إيجابية في اتجاه زعزعة استقرار سوريا ولبنان لحساب حليفتها إيران، أو اتخذت خطوات مفاجئة في اتجاه تعزيز علاقاتها الدافئة مع قوى الحوثيين الموالية لإيران في اليمن، فإن العلاقات المتبالة بين الرياض وموسكو، ستكون في وضعية متأزمة، خاصة إذا ما استعادت الإدارة الأمريكية علاقاتها الإيجابية السابقة مع المملكة العربية السعودية، إلى جانب عودتها مجدداً إلى الاهتمام بقضايا المنطقة وعدم الانسلاخ منها في اتجاه القارة الآسيوية كما كان مزمعاً تنفيذه من قبل إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
ومثل هذه المحددات والشكوك السابقة والمعلقة بشأن الموقف الروسي في المستقبل، سيظل محط رقابة صارمة من جهة الشعوب والحكومات في دول المنطقة، لأنه الموقف الذي ستنبني عليه طبيعة المسارات القادمة في صلب العلاقات الدولية المتطورة على الدوام، والمهيأة لمزيد من التحولات صعوداً وهبوطاً، كما أنه من جهة ثانية، لابد من لفت الانتباه إلى أن محددات الموقف الأمريكي على يد إدارة دونالد ترامب، من طموحات الشعب العربي تجاه القضية الفلسطينية، سيكون هو الآخر من بين المواقف المحورية في تشكيل طبيعة العلاقات السعودية الأمريكية المستقبلية من جهة، والعلاقات السعودية الروسية من جهة ثانية، والعلاقات الشعبية والجماهيرية بالقيادة السعودية من جهة ثالثة، ما يعني أننا بصدد حالة مخاض دولي حبلى بالتداعيات والنتائج المنتظرة.
الإشارة والمغزى
وبمقياس المصالح الاقتصادية والوطنية الشاملة، يمكن النظر إلى انخفاض التمثيل الدبلوماسي السعودي الأخير في قمة دول البريكس في دورتها الـــ(16) في مدينة قازان الروسية، واقتصاره فقط على حضور وزير الخارجية الأمير (فيصل بن فرحان) مع الوفد السعودي، دون حضور ولي العهد الأمير (محمد بن سلمان)؛ حيث يشير هذا التمثيل المنخفض بوضوح، إلى عمق النظرة السعودية لأهمية موقفها وموقعها في سلم أولويات العلاقات الدولية والخارجية؛ ففي عدم حضور ولي العهد، تكمن عملية الضبط المشار إليها في علاقات المملكة بالجانبين الروسي والأمريكي، إذ أن درجة التمثيل الدبلوماسي هنا تتناسب ودرجة الأهمية الاقتصادية والسياسية لتكتل البريكس (الديكوري حتى الآن)، كما أنها تتناسب وطبيعة التوازنات الخاصة بعلاقات الرياض بواشنطن من جهة، و علاقاتها بالقوى الأوربية من جهة ثانية، وفي كل الأحوال، تبقى القيادة السعودية سيدة قرارها فيما يخص علاقاتها الخارجية، لأنها تعي جيداً ما تستوجبه متطلبات المرحلة من كافة النواحي وعلى كافة الصعد والمستويات، ولذا فقد حمل ضعف التمثيل هنا إشارة ذات مغزى، تؤكد انفتاح القوى الكبرى على استقطاب المملكة إلى صفها، بينما تؤكد في ذات الوقت، سيادة القرار السعودي في التجاوب أو عدم التجاب مع أي طرف من الأطراف، وبالقدر الذي تراه مناسباً لمصالحها ومصالح شعبها، ودون مزايدة فيما يخص قدرتها على تعديل وجهتها متى ما أرادت ذلك.
اقرأ أيضاً: محمد محفوظ لأرابيسك لندن: ترامب سيستجيب لطموحات الرياض، ونحتاج إلى صياغة مشروع خليجي-عربي مع إيران