كتب: محسن حسن
يعد العراق من بين المكونات الأصيلة بالنسبة لمنطقة الخليج؛ فهو يشكل رأس الخليج الشمالي وفق مساحة جغرافية عريضة تمتد لأكثر من 57 كيلومترًا، ومن ثم، فهو يمثل بعداً أمنياً واستراتيجياً ذا أهمية بالغة لمحيطه الخليجي، ومن جهة مقابلة، لا يستطيع العراق أن يحظى بهذه الأهمية الاستراتيجية والأمنية، دون أن يمد جسور التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري مع هذا المحيط الجامع للعوامل المشتركة، وهذا هو ما تدركه القيادات السياسية في كل من دول مجلس التعاون الخليجي، والعراق على حد سواء.
وتشهد العلاقات العراقية الخليجية في الآونة الأخيرة مزيداً من التقارب والتلاحم وخاصة على مستوى الشراكات الاقتصادية والاستثمارية المختلفة، والتي تبادر بها دول الخليج، وفي المقدمة والقلب منها، المبادرات الاستثمارية السعودية، والتي تلعب دوراً حيوياً في تعزيز العلاقات المتبادلة بين الرياض وبغداد.
وخلال الأعوام الأخيرة، فرضت الأوضاع المتشابكة في المنطقة والعالم، منطقها التواصلي على الجميع من أجل إبداء مبادرات مرنة، تعمل على تحييد القضايا الخلافية والتشبث بأهداب التوافق والتقارب الخادم لأمن واستقرار المنطقة، وأيضاً لفتح آفاق رحبة من التعاون الاقتصادي الذي تحتاج إليه الجماهير والشعوب لتحقيق التوازن المعيشي والنمو المستدام في كافة القطاعات، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تذويب التحديات والصعاب وتذليل العقبات من أجل المضي قدماً نحو البناء والتعمير والتنمية؛ ولذا شهدت الاستثمارات الخليجية في العراق زياة مطردة في المعدلات والنسب، وذلك من خلال توقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية مع بغداد.
ومن بين أهم هذه الاتفاقيات التي تم توقيعها خليجياً، ما تم إنجازه بين العراق وقطر في مجالات الصحة والبنية التحتية والسياحة، بقيمة إجمالية تزيد على 4.5 مليار دولار، بالإضافة إلى أوجه تعاون أخرى في مجال الطاقة؛ حيث وقعت العديد من الشركات القطرية اتفاقيات طاقية مع الهيئة الوطنية للاستثمار بالعراق، تقارب قميتها الــ 39 مليار دولار، سيتم بمقتضاها بناء محطات للتوليد الطاقي ومكافحة الهدر النفطي للغاز العراقي، في حين وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة خلال 2023، اتفاقيات تعاون استثمارية مشابهة وممتدة لعقدين قادمين، وذلك لتحديث حقول الغاز العراقية في المناطق الجنوبية، وتحديداً في محافظتى ديالى والبصرة، علماً أن حجم التبادل التجاري بين أبو ظبي وبغداد، آخذة في الازياد، حيث تبلغ معدلات التبادل بين البلدين حالياً أكثر من 25 مليار دولار، وأغلب أوجه التعاون هي في مجال النفط واللوجيستيات والتكنولوجيا.
مستقبل العلاقات السعودية العراقية
وفيما يخص علاقات المملكة العربية السعودية والعراق، فإنها في الحقيقة لا تقتصر فقط على الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، وإنما تتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك، ونعني به الشراكات الأمنية والاستراتيجية، وليس فقط التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، ولذلك تعد العلاقات الثنائية بين البلدين، درة التاج بالنسبة للعلاقات العراقية بمنطقة الخليج عموماً؛ إذ حرصت أغلب الحكومات العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وحتى الآن، على استعادة اللحمة والتوافق بين البلدين بعد قطيعة دامت لأكثر من عقدين، وتحديداً منذ غزو العراق للكويت، وحتى العام 2015، عندما استأنفت المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع بغداد إبان حكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق(حيدر العبادي)، لتتطور هذه العلاقة وتنمو بفعل العديد من العوامل والمحفزات الدافعة إلى التقارب والتعاون الجاد على كافة الأصعدة والمستويات.
ومن أهم هذه المحفزات رغبة البلدين في تعزيز التوازن الإقليمي في المنطقة، وحرصهما على إقرار الأمن بها، خاصة في ظل تصاعد الخروقات الأمنية والحدودية، وتعاظم التيارات والجماعات الإرهابية التي تستهدف استقرار البلدين، وذلك في ظل ما تفرضه مقتضيات الأمن الحدودي بين الجانبين؛ حيث تجمع العراق والسعودية حدود صحراوية تمتد لأكثر من 810 كيلومتراً، وهي حدود مضطربة ونشطة في تهديد أمن الطرفين معاً، حتى أن المملكة بادرت بتقديم تمويل قدره مليارى دولار لبناء حاجز أمني على طول هذه الحدود لضبط حركة الحدود المتبادلة وتأمينها ضد خروقات العناصر المسلحة وأباطرة التهريب.
اقرأ أيضًا: محددات السياسة النفطية الراهنة للسعودية في ميزان الاقتصاد والأمن والتحالفات الدولية.. المغزى وسؤال المرحلة!!
الدوافع الاقتصادية والمحفزات التنموية
تعد الدوافع الاقتصادية والمحفزات التنموية، من بين أهم العوامل الداعمة لتقارب البلدين؛ فمن خلال تأمل السوق المحلية لديهما، نجد أن هذه السوق تميل إلى التكامل؛ فالسوق العراقية على سبيل المثال تحتاج إلى الإفادة من الزخم التنموي والتحسن المستمر الذي تشهده أسواق المال السعودية، والتي شهدت في الآونة الأخيرة مساراً متصاعداً في تعزيز السيولة النقدية وتطوير الأنشطة الاستثمارية ورفع معدلات الإسهام القطاعية في الناتج المحلي الإجمالي، وخاصة على مستوى القطاعات غير النفطية.
علماً أن هذا التميز المتنامي للأسواق السعودية، حدث في إطار الرواج الاستثماري والتجاري والاقتصادي الذي تشهده الأسواق الخليجية عموماً، وهي الأسواق التي بدأت منذ العام 2008 في التصاعد التدريجي نحو القوة والتماسك والتكامل، وخاصة على المستوى النقدي، وتكفي الإشارة هنا إلى صعود مؤشرات هذه السوق من 560 مليون دولار تقريباً خلال العام المذكور 2008، إلى قرابة المليار دولار عام 2013، في تطور ملحوظ لهيكل السيولة النقدية في منطقة الخليج، والآن هذه المؤشرات في نطاق فريد آخر من حيث التطوير والتحديث والمردود.
كما تحتاج السوق العراقية، إلى الإفادة أيضاً من مستحدثات السوق السعودية في التنويع الاقتصادي، والخروج من أسر الريع النفطي وأمراضه الاقتصادية المزمنة، خاصة في ظل ما تشهده المملكة حالياً من خطط طموحة لتنويع الموارد والمداخيل المالية عبر الاستثمار والتجارة وتوطين المهن والوظائف والسلع المختلفة التي تحتاج إليها البيئة الاقتصادية والتجارية المحلية، هذا وغيره، تحتاج السوق العراقية أن تفيد منه وتحتك به وتنقل تجاربه الناجحة إلى آلياتها وطريقة تعاطيها مع الأسواق الإقليمية والدولية، وهو ما لن يحدث إلا من خلال التقارب والتبادل الاقتصادي والتجاري بين هاتين السوقين.
ولعل تطلع الحكومات العراقية الأخيرة وخاصة حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إلى تطوير بنية الاقتصاد العراقي وتنويع موارده غير النفطية، من بين محفزات الإقبال العراقي على التقارب مع المملكة، خاصة في ظل التطورات الإقليمية الأخيرة، والتي شهدت إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بعد قمة العلا التي بذلت العراق جهوداً كبيرة في الإعداد لها، قبل أن تكلل بوساطة صينية رفيعة المستوى وناجحة، على أن الحكومة العراقية بصفة عامة، تسعى جاهدة إلى جذب أية استثمارات جديدة من شأنها المساعدة في استعادة قوة الاقتصاد الوطني المحلي بعد أعوام وسنوات وعقود من الحروب والنزاعات والاستهدافات.
وحتى نكون منصفين، فإن العراق ليس هو الساعي وحده إلى تطوير العلاقات الثنائية مع محيطه الإقليمي والدولي، لأن منطق المصلحة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية الشاملة، يؤكد أن الجميع يؤسس لمصالحه وأهدافه واستراتيجياته، وهذا ليس عيباً في سياق العلاقات الدولية ضمن كافة أطرها ومستوياتها، وكثيراً ما يحلو لبعض المحللين الغربيين أن يدقوا إسفين الظنون السيئة بين دول المنطقة وخاصة عندما يكون العراق ودول الخليج طرفاً فيها؛ إذ درج هؤلاء المحللون على الترويج لما يمكن تسميته بــ (استهداف خليجي) للعراق عبر الاقتصاد والاستثمار، وكأن العلاقات الدولية لا تعرف غير هذا الاستهداف وفق نظرتهم الخبيثة تلك.
اقرأ أيضًا: السعودية وكوريا الجنوبية.. العلاقات التجارية والاقتصادية تنتقل نحو مرحلة استراتيجية جديدة
السياسة والاقتصاد
وفي واقع الحال، فإن الحقائق الدولية اليوم تؤكد أن الاقتصاد لا ينفك عن السياسة، والسياسة لا تنفك عن الاقتصاد، وأن كافة العلاقات الاقتصادية والاستثمارية من الطبيعي أن تقترن بها أهداف سياسية واستراتيجية، وأن العلاقات والأهداف دوما تتجلى معطياتهما معاً دون فصل أو تفريق، لكن يبقى الأصل في كل هذا، هو أن علاقات التقارب الاقتصادي كثيراً ما تفضي إلى حلول سياسية بعيدة عن التوتر والصدام، وخاصة في المنطقة العربية، التي يمكن أن تساهم العلاقات الاقتصادية في تعزيز استقرارها واستقرار شعوبها، ومن ثم، فليس من العيب أن يكون لدول الخليج أهدافها في الداخل العراقي، خاصة وأن إسهامات هذه الدول السابقة على المستوى السياسي أو الاقتصادي، لم يكن أبداً بهدف إحداث الفرقة والاضطراب بين أطياف الشعب العراقي، وإنما لإقرار التوازن والاستقرار لهذا الشعب الذي عانى كثيراً من ويلات الشتات والفرقة والطائفية، وأيضاً لإقرار التوازن الإقليمي عبر علاقات منفتحة وديناميكية هدفها التطوير والتحديث وتبادل الخبرات المؤدية إلى تعزيز الجوانب العلمية والتقنية وتبني الخطط الهادفة إلى إحداث تنمية بشرية حقيقة ترقى بالفرد والمجموع معاً.
وبنظرة مدققة، سنجد أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الرياض وبغداد لم تتوقف حتى في ظل أجواء الانقطاع الدبلوماسي بينهما، فخلال عام 2005، كان حجم التبادل التجاري بين البلدين يتراوح بين 400 إلى 500 مليون دولار، ليتطور بعد عدة اعوام، وتحديداً خلال عام 2012 إلى ما بين 800 إلى 900 مليون دولار، ثم إلى مليار دولار عام 2017، ليصل في العام التالي 2018 إلى مليار ومائة مليون دولار، وحالياً ساهمت عوامل عديدة منها النفطية وغير النفطية، في تراجع وتيرة هذا التبادل، وهو ما دفع قيادة البلدين إلى التواصل مجدداً لبحث أوجه التطوير والتحديث لحركة التبادلات التجارية والاقتصادية عموماً بين البلدين، وهو ما يُتوقع معه عودة زخم الاستثمارات السعودية الضخمة في العراق، خاصة في ظل الأجواء الإقليمية المستقرة نسبياً، والتي يمكنها أن تساعد كثيراً في فتح آفاق اقتصادية جديدة وواعدة للمزيد من أوجه التعاون والاتفاقيات والمبادرات المفيدة لاقتصاد الجانبين.
ومؤخراً، تم توقيع أكثر من 10 مذكرات تفاهم بين العراق والمملكة العربية السعودية، لإنجاز مشاريع اقتصادية واستثمارية نوعية يحتاج إليها العراق من جهة، وترحب بها الرياض من جهة أخرى لفتح آفاق جديدة لاقتصادها واستثماراتها ضمن خطة واستراتيجية 2030 الإصلاحية، وهي مشاريع يمكنها خلال المرحلة القادمة، أن تمهد لمزيد من الانفتاح بين البلدين، حيث كان الجانبان قد قاما بالتوقيع خلال يونيو 2023، على عقد استثماري بقيمة مليار دولار تقريباً، لإنشاء مشروع ضخم بالقرب من منطقة (الرفيل) التي ستكون العاصمة الإدارية الجديدة للعراق على مساحة تزيد على 105 آلاف دونم، بالقرب من مطار بغداد الدولي، وهو المشروع الذي سيشمل تجمعاً حضارياً وسكنياً وإدارياً وتجارياً جديداً في هذه المنطقة من خلال تدشين أكثر من أربعة آلاف وحدة سكنية، وأكثر من ألفى فيلا خاصة، إضافة للكافيهات والمطاعم والمكاتب الخاصة بكبريات الشركات العراقية، ما ستشهد معه هذه المنطقة من العراق تحولاً جديداً نحو الإعمار والرواج الاقتصادي والمجتمعي.
اقرأ أيضًا: قطاع التعدين محوري في جهود التنويع الاقتصادي في السعودية والذهب علامة فارقة
أهمية إعمار العراق بالنسبة للسعودية
في الحقيقة، لا تألو السعودية جهداً في الاستجابة السريعة لمتطلبات التطوير والإعمار في العراق، وذلك لإدراكها أهمية استقرار العراق وازدهاره بالنسبة للمنطقة ككل، ولذلك، فإن المملكة لا تتعامل مع الاستثمار في العراق فقط من باب تطوير اقتصادها واستثماراتها، وإنما أيضاً من باب تقديم الدعم الواجب والأولى لهذه الدولة التي تعد شريكاً استراتيجياً وأمنياً وعاملاً إقليمياً من عوامل الاستقرار في المنطقة، ومن هذا المنطلق، نجد أن العراق يستحوذ على الصادرات السعودية منذ بدايات خطة 2030 التي انطلقت عام 2016؛ حيث بلغت صادرات المملكة إلى العراق في ذلك العام أكثر من 610 مليون دولار ، وخلال عام 2022، لم يتردد القائمون على إدارة استثمارات (صندوق الثروة السيادي) بالسعودية، في إدراج العراق ضمن نطاق اهتمامات الصندوق، وذلك من خلال إنشاء شركة استثمارات متعددة التخصصات، للمساعدة في دعم البنية التحتية العراقية وتطوير مجالات الزراعة والتعدين والاستشارات المالية والعقارية، وبقيمة استثمارية للشركة يبلغ رأس مالها ثلاثة مليارات دولار، كما لم تتردد الرياض في المشاركة في مؤتمر(طريق التنمية) الذي تم الإعلان خلاله عن تدشين خط للسكك الحديدية يمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، لربط منطقة الخليج بالقارة الأوربية عبر العراق وتركيا، وهو المشروع الذي سيموله كل من دولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى هامش الإعداد لهذا المؤتمر، قامت العراق والسعودية بإبرام اتفاقية تعاون جديدة، تم بموجبها تخصيص ثلاثة مليارات دولار مناصفة بين البلدين، لإنشاء شركة استثمارية عراقية سعودية مشتركة.
وإجمالاً، يمتلك كل من المملكة العربية السعودية والعراق، أوجهاً مشتركة ومتكاملة من آفاق التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري التي يمكن تفعيلها في المستقبل لصالح اقتصاد البلدين؛ حيث يعد مجال الصناعات الثقيلة كصناعات الألومنيوم والإسمنت والبلاستيك من المجالات الواعدة التي يمكن تطويرها بينهما، كما تعد السلع الغذائية والصناعات الدوائية ومواد البناء والمعادن الثمينة من أهم صادرات السعودية إلى العراق، وهي مجالات أيضاً، يمكن التعاون في توطينها عراقياً، وخاصة في مجال الصناعات المعدنية الذي تتفوق فيه المملكة العربية السعودية، فهي الأولى خليجياً في هذا المجال، وتعد تجارة الذهب من بين أهم المجالات الواعدة التي يمكن أن تساهم في تطوير العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين الجانبين.
وختامًا، لا يجب النظر إلى علاقات الشراكة العراقية السعودية، أو العراقية الخليجية، فقط في ضوء ملابسات الوضع الإقليمي المرواغ، وإنما يجب النظر إلى هذه العلاقة باعتبارها ملاذاً ضرورياَ للنهوض المتبادل بالبنية الاقتصادية الوطنية لطرفيها، والتي تحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى عوامل الوفاق والتعاون أكثر منها إلى ادعاءات المؤامرة والاستغلال.
اقرأ أيضًا: السعودية تؤسس لشراكة فاعلة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتضع الحليف الأمريكي أمام مسؤولياته