في عالم يتسارع فيه الإيقاع ويتشابك فيه القديم بالجديد، تظل التصميمات الفنية بمثابة قصائد مرئية تحكي قصة الإنسان، تعكس هويته، وتمنحه نافذة للتأمل في جذوره ومستقبله. فهذه ليست مجرد منتجات مادية، بل لغة حية تنطق بها الأيدي والعقول، تلتقي فيها الفكرة مع الخامة، والتقنية مع الحرفة. وفي هذا السياق المتعدد الأبعاد، انطلقت فعالية «MADE 2025» لتكتب سطوراً جديدة في كتاب التصميم الحديث، مقدمة تجربة فريدة تخاطب الحواس والفكر معاً.
لم تكن فعالية «MADE» في جدة مجرد معرض أو سوق للتصميمات الراقية، بل جسّدت منصة حوارية نابضة جمعت الصناع والجمهور في مساحة واحدة، حيث لم تكتف القطع الفنية بأن تُعرض للعيان، بل اصطحبت زوارها في رحلة داخل القصص والأفكار الكامنة وراءها. كان الحضور مدعوين للتساؤل: لماذا صُنعت هذه القطعة؟ وكيف ولدت فكرتها من رحم الخيال؟
بينالي الدرعية: مظلة للإبداع المحلي والعالمي

هذه التظاهرة الثقافية التي نظمتها مؤسسة «بينالي الدرعية» لم تقتصر على استضافة مصممين محليين فحسب، بل وسّعت أفقها لتشمل مشاركين من مختلف أنحاء العالم العربي والدولي. استقطبت الفعالية نخبة من الحرفيين والمبدعين الذين قدّموا أعمالاً تحمل في طياتها أبعاداً جمالية وسردية، تعكس مدى تفاعل الإنسان مع المواد الطبيعية مثل الخشب، السيراميك، المعادن، والمنسوجات.
من بين ما ميّز «MADE» هذا العام كان التنوع اللافت في المواد المستخدمة، حيث شكّلت كل مادة قصة قائمة بذاتها. رأينا السيراميك يتناغم مع تفاصيل التراث، والخشب يُعاد تشكيله في تصاميم معاصرة، والمنسوجات تنسج بين خيوطها ذاكرة جماعية، فيما المعادن تحولت إلى منحوتات تحكي عن القوة والديمومة. كلها جمعت بين التقليدي والمفاهيمي، مؤكدة أن التصميم هو جسر بين الحاضر والماضي.
برامج وورش تعمّق الفهم الفني
لم تقتصر الفعالية على العرض فقط، بل تضمنت سلسلة من الورشات والمحاضرات التي أضاءت على جوانب التصميم المختلفة؛ بدءاً من المواد والتقنيات، وصولاً إلى فلسفات التصميم وأخلاقياته. وأتاحت هذه البرامج للجمهور فرصة الغوص في أعماق العملية الإبداعية، من اللحظة الأولى للفكرة وحتى اكتمال المنتج النهائي، ما جعل من «MADE» مساحة لتبادل الأفكار وإعادة التفكير في معنى التصميم ذاته.
المنتدى: مساحة جديدة للحوار
تزامناً مع الفعالية، أطلق «المنتدى» نسخته الأولى في صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة، ضمن إطار «بينالي الفنون الإسلامية». وتحوّل المنتدى إلى مساحة مشتركة تشجع على الحوار بين المصممين والجمهور، مكرساً فكرة أن التصميم هو أكثر من مجرد إنتاج بصري، بل هو أداة فكرية وفنية تدعو إلى التأمل والمساءلة.
كما صرّحت آية البكري، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة «بينالي الدرعية»، بأن «MADE» ليس سوقاً عادياً، بل منصة تعيد تعريف التصميم وتعيده إلى جذوره كوسيلة فكرية تعكس هويتنا الجمعية وتستشرف المستقبل. وأكدت أن النسخة الافتتاحية تمثل علامة فارقة في مسيرة التصميم في المنطقة، لما تقدمه من مساحة تجمع بين التجارة والفكر، وبين الحرفة والتكنولوجيا.
أسماء لامعة وتجارب متنوّعة
شارك في الفعالية نحو 20 اسماً من المبدعين العالميين، كان من بينهم رلى سلمون بتصاميمها التي تدمج بين الضوء والظل في توازن فني بديع، وسابرينا ميرايو نونيز التي قدّمت قطعاً زجاجية عضوية الشكل تحاكي تفاعل الضوء مع الملمس. ومن بين الأسماء الأخرى: «فستون»، «نايفاكتوري»، «إشراق زريقات»، و«أريل آندريه»، الذين قدموا تجارب تتراوح بين النسيج الذكي، والتصميم المستدام، والمواد الحيوية، ما أضفى على المعرض بُعداً عالمياً وحديثاً.
وتميّز المنتدى بفعاليات تفاعلية جذبت جمهوراً واسعاً من مختلف الأعمار، منها ورش مثل تشكيل الزجاج وصناعة الشمعدانات الفخارية، إلى جانب محاضرات تفتح الأفق مثل «السرديات في التصميم» التي ناقشت العلاقة بين القصة والتصميم، و«خيوط من التراث» التي أعادت إحياء فنون المنسوجات التقليدية.
اقرأ أيضاً: «شذرات من الفلكلور»: معرض يُعيد تعريف التراث بلغة الفن
ختاماً، تطمح مؤسسة «بينالي الدرعية» إلى جعل «MADE» منصة سنوية تعزز ثقافة التصميم وتربط المجتمع المحلي بالمشهد الإبداعي العالمي، بهدف ترسيخ مفهوم التصميم كأداة للتواصل الإنساني والاجتماعي وليس فقط كمنتج جمالي. بهذا المعنى، يصبح التصميم أداة للتأمل في العالم من حولنا، ولغة تعبر عن هوية الشعوب وأحلامهم.