صفاء الذهن، الإلهام، البصيرة القوية، والانفتاح على عوالم إبداعية… إنها ليست تعابير عن صفات خاوية، بل هي مفاتيح الروح التي يحملها الفنان التشكيلي ليحوّل مشاعره وأفكاره إلى لوحات وقطع فنية تتنفس، وتدعونا لاكتشاف ما وراء الألوان والخطوط… وفي المملكة العربية السعودية، تلمع أسماء نسائية استطعن أن يرسمن طريقهن نحو العالمية، متحدّيات الظروف ومؤمنات بأن الإبداع لا يعرف حدوداً، ومن بين هذه الأسماء اللامعة ترسم الفنانة نجلاء السليم لنفسها طريقاً مفروشاً بالنجاحات، في هذا المقال، سنعرفكم على بداياتها، أعمالها، ورؤيتها الفنية المتميزة.
نجلاء السليم وطفولة مُشبعة بالفن!
قد يُكتسَب الإبداع لكنه في الأصل يولَد مع الإنسان، ينمو معه ويتشكّل من خلال التجربة، قد يجد من يغذّيه أو من يحاول كتمه! وفي حالة الفنانة السعودية نجلاء السليم، وُلد الإبداع معها وترعرع في بيئة مُشبعة بالفن والجمال، فمنذ نعومة أظفارها بدأت تلامس الألوان وتنسج خطوطها الأولى، مستلهمةً رؤيتها المتميزة من والدها، الفنان التشكيلي الراحل محمد السليم، الذي زرع في قلبها بذور الفن وأشعل في روحها شرارة الرؤية الآفاقية التي اشتُهر بها، هذه الرؤية التي استوحاها من حبّه للصحراء، وخاصة مشاهد الغروب وتدرُّجات الألوان فيها، ليقدِّم أسلوباً فنياً جديداً ومميزاً يعبّر عن البيئة السعودية.
كان محمد السليم مُلهماً وموجّهاً، منح نجلاء فضاءً حراً لتجرّب، تكتشف، وتعبّر، ما خلق لديها حساً فنياً مبكراً ونضجاً في أسلوبها التعبيري… وفي عام 1983م، وعندما كانت طالبة في المرحلة الثانوية، قدّمها والدها إلى جمهور الفن للمرة الأولى، في معرض مسابقة الربيع الذي أقيم بصالة دار الفنون العالمية بالرياض، وشارك فيه نخبة من الفنانين السعوديين والعرب مثل علي الرزيزاء، عبدالله حماس، عبد الحميد الدواخلي، أحمد عبد الرحمن بلال، أحمد الأعرج، وسمير الدهام، ضمن قائمة تجاوزت الخمسة وعشرين اسماً فنياً بارزاً.
وعلى الرغم من تشجيع والدها وقوة تأثيره، تنفي نجلاء بشدة أن يكون قد فرض عليها السير في طريقه، مؤكدةً أنه كان يؤمن بحرية أبنائه في اختيار مساراتهم، وأنه كان “ديمقراطياً” معهم، على حسب قولها، مشيرةً إلى أنه شجعها فقط حين لمس فيها شغفاً حقيقياً، وترك القرار لها في تحويله إلى مسار حياة.
دراسة بعيدة عن الفن وتقاعد مبكر
هذه البداية المؤثرة عن الكمّ الهائل من الإبداع والشغف الفني لدى نجلاء السليم، قد يدفعنا لنظنّ أنها فور تخرجها من الثانوية انطلقت لدراسة الفن أكاديمياً، ولكن ما يثير الصدمة أنها سلكت طريقاً مختلفاً تماماً في البداية؛ إذ درست الكيمياء، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1990م.
ورغم دراستها البعيدة عن الفن، عادت إليه بقوة حين التحقت بجامعة ميشيغان في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درست الفنون الجميلة وتخرجت عام 1994م.
ومنذ عام 1995م، بدأت نجلاء مسيرتها المهنية كمعلمة للفنون، ثم تولّت مهمة الإشراف التربوي في مجال التربية الفنية ابتداءً من عام 2000م، لكن في عام 2005م، اتخذت قرار التقاعد المبكر لتتفرغ كلياً للفن، شغفها الأول.
وفي أحد حواراتها، تحدثت نجلاء عن تجربتها الفنية وقالت:
“أنتمي إلى جيل الثمانينيات حينما بدأت المشاركة في المعارض، ولا أزال ولله الحمد مستمرة في العطاء الفني. ولذا عايشت حقبة زمنية كانت المرأة لا تجرؤ فيها على المشاركة في المعارض الفنية الدولية إلا بأعمالها فقط، هذا إذا كان لها الحظ في ذلك. أما الآن، فأصبح الموضوع مختلفاً، يمكن للفنانة المشاركة في الأعمال والحضور شخصياً، والحصول على تقدير واضح ومحفز. كما أن المكانة التي تحظى بها الفنانة التشكيلية اليوم مقارنة بزملائها الرجال أصبحت أقوى، حيث تدعى إلى المحافل الفنية وتمثل وطنها بنسبة عالية في المشاركات العالمية.”
مسيرة فنية حافلة
طوال مسيرتها الفنية المستمرة حتى الآن، كانت نجلاء السليم حاضرة بثبات في مشهد الفن التشكيلي، تقيم معارضها الشخصية وتشارك في المعارض الفنية الجماعية داخل المملكة وخارجها، وتستلهم أعمالها من البيئة المحلية، فتراها تنجذب إلى الألوان التي تعكس روح المكان، المرتبطة بالصحراء، المباني الطينية، النخيل، والزرع.

أطلقت السليم معرضها الشخصي الأول “الأكنة” في دبي في عام 2012، ثم تبعته بمعرض “شجار” في الرياض عام 2015، والذي طرحت من خلاله رؤيتها الصدامية مع الواقع من زوايا فنية بحتة، وبعد عامين، عادت بروح جديدة في معرض “روح المدينة”، وفي 2018، شاركت ضمن فعاليات الفورمولا إي في الدرعية بمعرض “روح الدرعية”، أما معرضها الخامس “تمكنت” عام 2019، فقد جاء تأكيداً على نضج تجربتها التي وصلت إلى مرحلة من الوضوح والتفرّد.
وإلى جانب معارضها الشخصية، كان لها حضور مميز في عدد كبير من المعارض والمناسبات الثقافية في السعودية، أبرزها “معرض الرياض عاصمة الثقافة” عام 2001، ومعرض “لوحة لكل بيت”، ومعرض سايتك للفن التشكيلي، حيث حصدت المركز الثاني في مسابقة “الآثار في عيون الفن” عام 2011، كما حضرت في “معرض الفن السعودي المعاصر” في جامعة الملك عبدالله عام 2012، وفي معرض الكتاب بالرياض عام 2013، ومؤتمر التعليم العالي في ذات العام، إضافة إلى مشاركاتها المتكررة مع جمعية جسفت.
وفي عام 2021، شاركت السليم في تكريم وزارة الثقافة لوالدها، حيث عُرض أحد أعماله الرقمية ضمن معرض نور الرياض.

أما خارج السعودية، فقد بدأت مشاركاتها منذ وقت مبكر، إذ مثّلت المملكة في الأسبوع الثقافي السعودي بالجزائر عام 1984، وتبعت ذلك مشاركات في أذربيجان وأوزبكستان في العام 2007، وفي عام 2019، خطت نجلاء نحو العالمية بمعرض “الفن والمملكة” في لندن، إلى جانب مشاركتها في معرض نظمته وزارة الثقافة في مقر اليونيسكو بباريس.
ترى نجلاء أن المشاركات الخارجية، سواء من خلال المعارض أو حتى الزيارات والاطلاع على الحراك الفني العالمي، هي عبارة عن جرعات فنية ضرورية لكل فنان، وتعتبرها محطات لتقييم الذات، ووسائل تعليمية تغني التجربة وتنقّي الرؤية، مؤكدة أن الانفتاح على العالم لا يقل أهمية عن الغوص في الجذور، من أجل صقل الموهبة وتعزيز الحضور.
وتؤمن نجلاء بأن الفن لغة عالمية قادرة على إيصال رسائل السلام والحب والجمال، وهو وسيلة راقية لإثبات الوجود في عالم سريع التغير، كما ترى في الفنون قوة ناعمة تبرز الهوية وتعكس القيم والعقيدة من خلال أعمال تنطق بما تعجز عنه الكلمات.
وبعد سنوات من الإبداع والمثابرة، تواصل نجلاء السليم حضورها كفنانة سعودية أصيلة على الصعيد المحلي والعالمي، ترسم بضربات ريشتها المتفرّدة طريقاً إبداعياً يمنحنا في كل محطة مزيداً من التأمل والتفكّر.