كتب: محسن حسن
ارتبطت الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات دبلوماسية كاملة منذ عام 1940م، وذلك بعد تسعة أعوام من اعتراف واشنطن بالدولة السعودية، حيث تم وقتها اتخاذ إجراءات تبادل أوراق الاعتماد الخاصة بالسفراء، فقامت الإدارة الأمريكية بتعيين أول سفير للولايات المتحدة لدى الرياض، وكانت الأوضاع وقتها تقتضي أن يُقيم السفير الأمريكي لدى المملكة، في العاصمة المصرية القاهرة؟
وبمرور الوقت، تطورت العلاقات بفعل تنامي الدور الإقليمي المتميز للمملكة، باعتبارها رمزاً دينياً ووجهة روحية لملايين العرب والمسلمين في العالم، ما يمنحها قوة في التأثير الجماهيري والشعبي على مستوى العالمين العربي والإسلامي في أي قضية من القضايا المتعلقة بهذين الصفتين، إلى جانب دورها الاقتصادي الدولي الذي تفرضه حيازتها لثاني أكبر الاحتياطيات النفطية على المستوى الدولي، إضافة إلى ما يؤسسه موقعها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، من ميزات واعتبارات استراتيجية ذات جدوى إقليمية ودولية من وجهة النظر الأمريكية، وهي الاعتبارات التي لعبت على الدوام، دورا فاعلاً وديناميكياً في العلاقات الثنائية طويلة الأمد بين الجانبين، والتي هي علاقات متجذرة على مدار أكثر من ثمانية عقود من الصداقة والتعاون.
ومن ينظر إلى تفاعلات الوضع الدولي وما يحيط به من صراعات لا تهدأ على مستوى المواجهات البينية المستعرة بين القوى الكبرى عسكرياً واقتصادياً، يتأكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن كافة الإدارات الأمريكية المستقرة في البيت الأبيض وما يرتبط بها من مؤسسات فاعلة واستراتيجية مملوكة للولايات المتحدة، في حاجة ماسة إلى الحفاظ على المصالح المشتركة بين الأخيرة والمملكة العربية السعودية، ليس فقط من أجل تحقيق الفوائد الاقتصادية البينية للبلدين، وإنما أيضاً من أجل المصلحة الدولية المشتركة في الحفاظ على الاستقرار والأمن في منطقة الخليج، خاصة في ظل ما تتيحه علاقات البلدين من فرص جد مهمة للتشاور والتعاون الدبلوماسي والأمني، لمواجهة مستجدات مجموعة واسعة من القضايا الإقليمية والعالمية التي تلعب الرياض فيها دورا بارزاً قوامه دعم الجهود الدولية والإقليمية الرامية إلى العمل من أجل إقرار السلم والأمن الدوليين، وكذلك من أجل تحقيق الازدهار للمنطقة والعالم.
ووفق ما سبق، ترى واشنطن في الرياض حليفاً استراتيجياً وشريكاً قوياً في كافة الجهود المتعلقة بالمنطقة والعالم، جنباً إلى جنب مع أوجه التعاون الأخرى التي لا تخلو من أهمية قصوى للداخل الأمريكي سواء على مستوى الحياة الاقتصادية والمالية والاستثمارية للأمريكيين، أو على مستوى إدارة مشكلات الطاقة وما يتعلق بها من اعتبارات لدى الناخب الأمريكي، هذا إلى جانب أوجه العلاقات العسكرية؛ حيث التنسيق المشترك والوثيق بين القوات المسلحة السعودية من جهة، والجيش الأمريكي وهيئات إنفاذ القانون من جهة أخرى، وذلك لحماية مصالح الأمن القومي للبلدين.
وفي حال أردنا التفصيل أكثر، فسنجد أن واشنطن والرياض تجمعهما علاقات ثقافية كبيرة ومهمة للطرفين؛ فمن وجهة النظر الأمريكية تساعد العلاقات الثقافية بينهما على تحقيق مستوى أعلى من الفهم للعالمين العربي والإسلامي، كما تتيح العلاقات ذاتها للسعودية فهماً أكثر للمجتمع الأمريكي واكتساباً لخبراته العملية والعلمية، ولذلك تحرص المملكة على التوظيف المثالي لعلاقاتها الثقافية والتعليمية القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال الدفع بعشرات الآلاف من الطلاب السعوديين للدراسة والتخصص في مجالات مختلفة بالكليات والجامعات الأمريكية، إلى جانب حرص البلدين على تعزيز ملتقيات وزيارات التبادل الثقافي والاحتكاك العلمي والخبراتي كل عام، وهو ما أوجد فرصاً واعدة لتأسيس برامج متبادلة للإعداد والتأهيل الثقافي والعلمي، حيث توفر الولايات المتحدة للشباب السعودي النابه والمتفوق وللقادة السعوديين الطموحين، برامج متطورة ومتنوعة لإعدادهم وتأهيلهم للاحتكاك الشامل بالمجتمع الأمريكي ومؤسساته المختلفة لاكتساب الخبرات الدولية في الفن والسياسة والاقتصاد والعلوم العسكرية وكافة الأنشطة والمجالات الأخرى، وهو ما يأتي غالباً في سياق برنامج قيادة الزوار الدوليين وغيره من برامج التبادل الثقافي والعلمي.
وفي الآونة الأخيرة، تلعب العلاقات الثقافية والعلمية بين البلدين دورها المؤثر في تسهيل مهمة إنجاح خطط واستراتيجيات المملكة للعام 2030م، وما بعدها، وخاصة على مستوى فتح الأبواب أمام القطاعات السعودية المختلفة لاكتساب الخبرات التقنية والفنية من نظيرتها الأمريكية، وهي الخبرات المساعدة على تطوير كافة المشاريع والقطاعات الحيوية في البلاد، وخاصة القطاعات الثقافية والمعرفية والفنية مما تحتاج إليه الرياض لتعزيز التنمية البشرية لديها، من حيث إعداد الكفاءات والكوادر السعودية القادرة على الإنتاج والإدارة والتشغيل، وهو ما يمثل ضرورة قصوى للسعودية في مجالات مثل صناعة السينما وخبرات تطوير الخدمات السياحية ودعم وتعزيز البنية التحتية، إلى جانب ما تحتاجه المملكة من خبرات جديدة ومتجددة في مجال تطوير الاستثمارات الثقافية بشتى أنماطها وأبعادها الداعمة للاقتصاد الوطني.
وبخلاف المبادلات الثقافية بين البلدين، هناك مبادلات أخرى للخبرات والعلاقات الأمنية والاقتصادية، وهي مرتبطة ببعضها البعض من حيث كون الأمن هو أحد شروط نجاح الاقتصاد، وأيضاً من حيث كون الاقتصاد هو أحد شروط تعزيز الأمن وحوكمته، ومن ثم، فإن البلدين نظراً لإدراكهما أهمية هذين المحورين في تعزيز المكانة الإقليمية والدولية، فهما يعملان بجد على تطويرهما والصعود بمستوى التعاون فيهما إلى أعلى المستويات؛ فمن حيث العلاقات الأمنية، تجمع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية علاقة أمنية طويلة الأمد؛ إذ تعد السعودية هي العميل الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية من حيث حجم مبيعات الأسلحة العسكرية الأجنبية في المنطقة والعالم، وبواقع أكثر من 100 مليار دولار في حالات المبيعات العسكرية النشطة.
اقرأ أيضاً: رفع الحظر عن بيع الأسلحة الهجومية للسعودية.. ما الدوافع؟
وبخلاف مبيعات الأسلحة الخاصة بالاعتبارات الأمنية، فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين وثيقة وكبيرة أيضاً؛ حيث تمثل الولايات المتحدة، ثاني أكبر الشركاء التجاريين للمملكة العربية السعودية، في حين تمثل الأخيرة، واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لواشنطن في الشرق الأوسط، وكما أسلفنا تعد المملكة ثالث مصدر رئيسي للنفط المستورد إلى أمريكا، حيث توفر حوالي نصف مليون برميل يوميا من النفط للسوق الأمريكية، ويجمع الطرفين إحدى الاتفاقيات الخاصة بإطار عمل للاستثمار التجاري، وذلك منذ أن قامت الرياض بإطلاق استراتيجيتها للإصلاح عبر رؤية 2030، وذلك في أبريل من عام 2016، بهدف تحقيق التنويع الاقتصادي والخروج من سياقات دول الأحادية الريعية والنفطية، وهو ما دفع ــ ولا يزال يدفع ــ باتجاه تعزيز زيادة التجارة والاستثمار مع جميع دول العالم بصفة عامة، ومع الولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة.
مستجدات طارئة
وكانت العلاقات السياسية بين البلدين مستقرة إلى حد كبير خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق، والمرشح الجمهوري الحالي لمنصب الرئاسة مجدداً (دونالد ترامب)، وذلك على الرغم من النهج الابتزازي الذي كان متبعاً من قبل الأخير في التعاطي مع طموحات المملكة النووية والعسكرية والأمنية، حيث استطاعت القيادة السعودية أن تؤسس لعلاقات قوية ومشتركة من جهة التوافق في التوجهات والرؤى المتبادلة بين القيادتين تجاه القضايا الإقليمية والدولية والمصالح التجارية والاستثمارية والنفطية في منطقة الخليج، حتى إذا ما رحل ترامب وحل مكانه الرئيس الديمقراطي (جو بادين)، أخذت العلاقات في الانكماش المفاجيء بفعل العديد من الاعتبارات، والتي كان من أهمها رؤية الديمقراطيين المتحفظة تجاه المملكة، وعدم قدرة الإدارة الجديدة على تلبية المتطلبات الأمنية والعسكرية الإقليمية للرياض في منطقة الخليج، إلى جانب جفاء العلاقة الشخصية بين (بايدن) الكهل، وولي العهد السعودي الأمير (محمد بن سلمان) المتطلع إلى النشاط والحركة وقوة التأثير في المحيطين الإقليمي والدولي، بالتزامن مع رغبة أمريكية طارئة في الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو القارة الآسيوية لتحقيق التوزان الاقتصادي والتجاري والاستراتيجي مع القوى الاقتصادية الصاعدة وفي مقدمتها الصين، إلى غير ذلك من عوامل لا تزال فاعلة حتى اللحظة، بما في ذلك العوامل الجديدة الخاصة بالوضع في غزة، وهي التي زادت من جفاء العلاقة بين واشنطن والرياض، ووضعت مستقبلها على المحك في محاور ليست بالقليلة.
وبعدما تنحى جو بايدن عن الاستمرار في منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، لصالح نائبته الديمقراطية (كامالا هاريس)، والتي تجمعها حالياً بالرئيس السابق (ترامب) مناظرات محمومة وتنافسية على هذا المنصب لخلافة بايدن في البيت الأبيض، بات من الطبيعي أن تثار العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية فيما إذا ظفرت هاريس بالبقاء في البيت الأبيض، ليس كنائبة كما هو الحال حالياً، وإنما كأول شخصية نسائية أمريكية تحظى بشرف اعتلاء كرسي الحكم في واشنطن، وهو الحدث الذي إن تحقق ــ وسيتحقق في الغالب نظراً لمؤشرات تقدم هاريس الراهنة والمتزايدة في سباق الرئاسة ــ فسيقتضي قيام القيادة السعودية وخاصة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بدراسة جديدة لخياراته فيما يتعلق بالوضع الأمريكي الجديد، وكذلك بشروطه للتعاون مع إدارة هاريس المحتملة، خاصة إذا ما تكيفت الأخيرة مع سياسة الرئيس بايدن في رؤيته المضطربة والمزدوجة للشرق الأوسط.
وبغض الطرف عن كون السيدة هاريس من الديمقراطيين ومن المتأثرين بسياسات الرئيس بايدن تجاه قضايا الشرق الأوسط والعالم، لا يمكن التكهن بالوجه الراجح والمستقر الذي ستكون عليه سياساتها إذا ما فازت بالمنصب الأمريكي الأكبر، ففي حال فوزها ومن وجهة نظرها كامرأة أولى في هذا المنصب، ستعمل السيدة هاريس حتماً على إيجاد صيغة جديدة وغير مسبوقة للتعاطي مع قضايا الداخل الأمريكي، وقضايا الخارج أيضاً، وذلك من باب الرغبة الشخصية في تمييز نفسها وتمييز بني جنسها في حكم الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل الوضعية الأمريكية المتأزمة حالياً مع شعوب العالم على خلفية الدعم الأمريكي المأساوي للحرب على الشعب الفلسطيني في غزة، ربما يكون هناك ما يمكن اتخاذه من قبل هاريس لتمميز نفسها عن سابقها، حيث ستكون مهمة استعادة الديمقراطيين الوجه الحضاري والإنساني للولايات المتحدة الأمريكية، هو الفرصة الحقيقية لهذا التميز، وهي الفرصة التي لن تتحقق إلا إذا أدركت الإدارة الأمريكية الجديدة مخاطر الدعم الأعمى للبطش بالشعوب المغلوبة على أمرها في المنطقة والعالم، وهنا لابد من التأكيد على أن ما يُقال في المناظرات الرئاسية شيء، وما يتم تطبيقه بالفعل من سياسات بعد الفوز بالمنصب، شيء مختلف تماماً، فلن تستطيع أي إدارة أمريكية قادمة أن تتجاهل الأوضاع المأساوية في الشرق الأوسط، خاصة ما ترتبط به هذه الأوضاع من قضايا ماسة بالأمن الإقليمي والأمن الدولي وقضايا العنف المسلح العابرة للحدود والجغرافيا، وبالتالي يمكن أن نتوقع ضبطاً نسبياً لعلاقات واشنطن مع قضايا المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي أصبحت عائقاً محورياً أمام تمديد تقارب المجتمع الدولي مع السياسات الدولية الأمريكية، وخاصة تقارب المملكة العربية السعودية وشعوب العالمين العربي والإسلامي.
ومن خلال تتبع السيرة الذاتية لهاريس، سنجد أنها كانت على تماس نسبي ومباشر سابقاً مع قضايا المنطقة؛ حيث سبق لها وأن تفقدت بعض مخيمات اللاجئين السوريين، كما أنها عارضت انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني باعتباره فرصة أمريكا الوحيدة لإعاقة طهران نووياً، بل دعت إلى العودة إلى هذا الاتفاق وتطويره ليشمل صواريخ إيران الباليستية، وتعد علاقاتها بتل أبيب من قبيل العلاقات المراوغة والمتأرجحة بين التأييد الغالب والتحفظ القليل، حتى فيما يخص بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وهي رغم إدراكها لأهمية العلاقات الأمريكية السعودية، كان لها موقفها المعارض لإمداد الرياض بالمساعدات الأمريكية أثناء الحرب اليمنية، وعلى أية حال لم يكن كل ما سبق كافياً لمنع هاريس من الافتقار إلى رؤية واضحة وشاملة للشرق الأوسط، ولكن يبدو من خلال الشخصيات المحيطة بها في البيت الأبيض ومن المقربين لها في حملتها الانتخابية للرئاسة، أن سياساتها ستكون أقرب لسياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مع اختلافات أخرى ستعود بالتأكيد للقناعات الخاصة بها على المستوى الشخصي والإنساني.
اقرأ أيضاً: وزير الصناعة السعودي في جولة أميركية لبحث فرص الاستثمار
السعودية حاضرة
ولكن على أية حال، وسواء تكيفت السيدة هاريس مع سياسات الرئيس بايدن المربكة، أو اتخذت نهجاً جديداً مختلفاً من التعاطي الإقليمي والدولي، فإن المملكة العربية السعودية ستكون دوماً هي البوابة المثالية لاحتواء واستيعاب المسار الأمريكي الرامي إلى استعادة صورة أمريكا الوازنة في أعين شعوب المنطقة والعالم، وهو ما سيتطلب بدوره مرونة أمريكية متجددة في التعاطي مع المتطلبات الأمنية والعسكرية والنووية السعودية، حتى ولو بشكل متدرج ومرحلي يتناسب مع مخاوف الديمقراطيين من إشعال حرب نووية في المنطقة؛ لأنه في حالة إهمال متطلبات الحليف السعودي، بالتزامن مع الانشغال الأمريكي الذي أصبح مزمناً، بمواجهة الصراع الاقتصادي مع القارة الآسيوية، فسيكون من الصعب بمكان على الإدارة الأمريكية أن تنقذ نفسها ودولتها من تداعيات العزلة الدولية، والسجالات النفطية المؤثرة في الداخل الأمريكي وفي خارجه أيضاً، إلى جانب صعوبات أخرى تخص الأمن البحري والأمن التجاري ومواجهة التكتلات الدولية الناشئة والطموحة كتكتل بريكس، والتحكم في مسار الأحداث الإقليمية المتأزمة والمشتعلة أو القابلة للاشتعال في الشرق الأوسط، سواء فيما يخص حل الدولتين المطروح من قبل المملكة للخروج من إشكالية الصراع العربي الإسرائيلي، أو ما يتعلق بتهديدات إيران النووية ونفوذها العابر للحدود، إضافة للصراع العسكري والتاريخي مع روسيا، وما يظهر على هامشه من تداعيات الحرب الأوكرانية، إلى غير ذلك من محاور ماسة بالأمن الإقليمي والدولي، والذي تتوقف مواجهته أولاً على ضبط حاضر ومستقبل التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط، ومن ثم التفرغ لمواجهة التحديات الأخرى الاقتصادية والاستراتيجية، وهو ما لا يمكن تحقيق خطوات إيجابية بشأنه، إلا من خلال تمتين العلاقات الأمريكية بالحليف السعودي.
اقرأ أيضاً: بن فرحان يبحث تطورات المنطقة مع بزشكيان ولودريان