في زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع المعتقدات، يمكن لكلمة مزيفة أن تزلزل ثقة جمهور كامل، وتثير عاصفة لا تهدأ من الجدل. هذا ما حدث حين اجتاح مقطع فيديو منسوب للشيخ عبد الرحمن السديس، إمام وخطيب المسجد الحرام، منصات التواصل الاجتماعي، وهو يزعم جواز بيع الخمور في مناطق سياحية بالمملكة. المقطع أثار صدمة وجدلاً واسعين، ليتبيّن لاحقاً أن الحقيقة مختلفة تماماً.
الكحول في السعودية
انتشر مقطع فيديو بشكل واسع يُنسب للشيخ عبد الرحمن السديس، يصرّح فيه بأن بيع الخمور جائز في بعض المناطق السياحية داخل السعودية، بينما يبقى محظوراً في باقي البلاد بانتظار أوامر ولي الأمر. هذا التصريح، المثير للجدل والمناقض للتوجهات الدينية الرسمية في المملكة، تزامن مع تقارير إعلامية تحدثت عن احتمال رفع الحظر المفروض منذ أكثر من سبعة عقود على المشروبات الكحولية، وذلك في إطار التحضيرات لكأس العالم 2034.
ولم يمضِ وقت طويل حتى راج الفيديو على نطاق واسع، جامعاً عشرات الآلاف من المشاهدات والتعليقات، في ظل حالة من الانقسام بين من صدّق ما ورد فيه، ومن شكك في صحته منذ اللحظة الأولى.
التحقيق يكشف: الفيديو مفبرك بالصوت والصورة
بتحقيق أجرته شبكة CNN بالعربية، تبيّن أن الفيديو المتداول مأخوذ من خطبة سابقة ألقاها السديس في 17 كانون الثاني الماضي، وتم تحميلها عبر قناة رسمية تُعنى بشؤون الأئمة والمؤذنين. إلا أن الصوت المرافق للفيديو تم استبداله بالكامل باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، بهدف إضفاء طابع مصداقي كاذب على محتوى لم يصدر قط عن الشيخ.
وأظهرت أدوات الكشف عن التزييف مثل أداة Deep Aware أن المؤشر يميل إلى اللون الأحمر، ما يدل على أن الصوت مفبرك بالكامل. كذلك، لم تكن حركات الشفاه متطابقة مع الصوت، رغم محاولة تقليد نبرة وأسلوب الشيخ.
اقرأ أيضاً: السعودية تفتتح أول متجر للمشروبات الكحولية: من الفئة المستهدفة؟
ليست المرة الأولى: السديس ضحية سابقة لحملات تضليل
لم يكن هذا الفيديو هو الأول الذي يُستغل فيه اسم الشيخ عبد الرحمن السديس. ففي أيار الماضي، نُشر مقطع فيديو آخر زُعم فيه أن السديس أدلى بتصريحات حول التوتر العسكري بين الهند وباكستان، قبل أن يُكذب بنفسه هذه المعلومات ويصفها بمحاولات «لزعزعة الأمن المجتمعي وبث الشائعات والكذب على الرموز الدينية».
وأكد السديس في حينها أن هذه الممارسات تهدف إلى شق الصف وبث الفتنة، داعياً إلى تفعيل الأمن المجتمعي ومواجهة هذه الظواهر المضللة.
هل السعودية على وشك تغيير موقفها من الكحول؟
تزامن تداول الفيديو مع تقارير إعلامية، أبرزها من موقعي Wine Intelligence وThe Sun البريطاني، زعمت أن السعودية تستعد للسماح ببيع الكحول في نحو 600 موقع سياحي مرخص اعتباراً من عام 2026. وأشارت هذه التقارير إلى أن هذه الخطوة تأتي ضمن جهود المملكة لتحديث قطاع السياحة واستقطاب الزوار في ضوء استضافتها المرتقبة لمعرض «إكسبو 2030» وكأس العالم لكرة القدم عام 2034.
لكن في المقابل، نفى مسؤول سعودي هذه الادعاءات نفياً قاطعاً، واصفاً إياها بأنها «لا أساس لها من الصحة جملة وتفصيلاً»، وأكد استمرار الحظر المفروض على استهلاك وبيع المشروبات الكحولية.
الكحول في المملكة… بين الواقع والسرّية
رغم الحظر العلني، تشير تقارير صحفية إلى أن الكحول يُستهلك في المملكة في نطاق ضيق وسري منذ سنوات. فقد قال مراسل «مونت كارلو» في الرياض إن هناك متجراً واحداً مرخصاً يبيع الكحول للدبلوماسيين غير المسلمين في العاصمة، وذلك منذ عام تقريباً، في أول حالة سماح واضحة منذ المنع الصارم المطبّق منذ 1952 على حدّ قول مراسل الإذاعة.
وزعم المراسل أن الكحول، سواء المستورد أو المحلي، يتم تداوله سراً في بعض الحفلات الخاصة والمناسبات المغلقة، وخاصة بين الجاليات الأجنبية المقيمة في السعودية.
جدل متجدد في ظل الإصلاحات الاجتماعية
أثارت هذه التقارير والتسريبات موجة جديدة من الجدل على منصات التواصل، خاصة أن المملكة، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تنفّذ سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية غير المسبوقة. من بينها السماح بقيادة المرأة، وتخفيف القيود على الاختلاط، وتقليص صلاحيات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهي تغييرات تهدف إلى تحسين صورة المملكة عالمياً وتوسيع قاعدتها الاقتصادية بعيداً عن النفط.
لكن تبقى قضية الكحول حساسة للغاية في مجتمع محافظ، ومرتبطة مباشرة بالهوية الدينية للبلاد التي تحتضن أقدس البقاع الإسلامية.
ختاماً، تسلط الحادثة الضوء على التحديات الأخلاقية والتقنية التي تفرضها تقنيات الذكاء الاصطناعي، لاسيما في عالم الأخبار والمحتوى المرئي. فإنتاج مقاطع مفبركة بصوت وصورة شخصيات دينية أو سياسية بات أمراً سهلاً ومتاحاً، مما يفرض على الجمهور ووسائل الإعلام على حد سواء اليقظة والحذر عند التعامل مع ما يُنشر على المنصات الرقمية.