كتب: محسن حسن
في ظل التحولات الاقتصادية الكبيرة للمملكة العربية السعودية، يشهد القطاع غير النفطي ارتفاعًا ملحوظًا ضمن إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد؛ حيث استحوذ على أكثر من 50% من هذا الناتج لأول مرة في عام 2023، وذلك عندما ارتفعت حصته من 47.4% التي حققها في عام 2015 إلى 51.7% في ذلك العام، ما يدل على التطور الاقتصادي المتنامي الذي تحققه المملكة في مسار تنويع الموارد الذي انطلق منذ إطلاق رؤية 2030 عام 2016.
وكانت الحكومة السعودية، قد سعت منذ إطلاق الرؤية إلى تطوير بيئة الأعمال وإنشاء قطاعات ومشاريع اقتصادية جديدة وضخمة مثل نيوم والبحر الأحمر، تماشيًا مع التزامها بخطط تنويع الاقتصاد الوطني السعودي، بعيدًا عن الاعتماد على الريع النفطي وقطاع النفط، وهو ما ساهم في أن يسجل النشاط غير النفطي ذلك النمو المشار إليه خلال الربع الأخير من عام 2023، عندما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي للمملكة بنسبة 4.2% على أساس سنوي، وفقًا لما ذكرته الهيئة العامة للإحصاء، علماً أنه قد سبق هذا الارتفاع، نمو سنوي بنسبة 3.2% في الربع الثالث، وبنسبة 5.1% في الربع الثاني من العام ذاته.
وبحسب بيانات الهيئة ذاتها، شهد العام 2023 المنصرم، ارتفاعاً معتدلاً لنمو القيمة المضافة غير النفطية، وبنسبة 4.4%، قياساً بنسبة النمو البالغة 5.6% خلال عام 2022، ومع ذلك، اضطرت الحكومة السعودية إلى البحث عن مزيد من الإجراءات الهادفة إلى علاج ضعف أنشطة التعدين الملاحظ خلال عام 2023، وذلك على خلفية انخفاض تعدين النفط الخام والغاز الطبيعي بنسبة 9.4%، حيث أكدت هيئة الإحصاء أن هذا الانخفاض بدوره أدى إلى تراجع القيمة المضافة لأنشطة التعدين واستغلال المحاجر بنسبة 9.2% في نفس العام، إلا أنها من جهة أخرى مقابلة، أكدت ارتفاع أنشطة التعدين واستغلال المحاجر الأخرى، وبشكل متزامن، بنسبة 5.7٪.
توسع قطاع التعدين في السعودية
وبناءً على ما تبذله الحكومة السعودية من جهود متواصلة، فإنه من المتوقع أن يتوسع قطاع التعدين في المملكة بشكل كبير في السنوات القادمة، ليلعب دورًا حاسمًا في جهود التنويع الاقتصادي، وذلك وفقًا لتأكيدات وتوقعات المركز الوطني للمعلومات الصناعية والتعدين، والذي أوضح أن الثروة المعدنية السعودية ستساعد على تحقيق ذلك التوسع، خاصة مع بلوغها حد الـ 9.4 تريليون ريال سعودي (2.5 تريليون دولار) مؤخرًا.
ومن الواضح أن حركة استكشاف الذهب التي تواصل زخمها في المملكة، سيكون لها دور كبير في دعم قطاع التعدين وتطويره وتنويع مصادره واستثماراته وإسهاماته في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ولعل أهم اكتشافات الذهب الحديثة تؤكد هذه الحقيقة؛ حيث إنها ستدعم الاستثمار في قطاع التعدين خلال السنوات القادمة، من خلال احتياطيات كبيرة من الذهب تم اكتشافها في ديسمبر من العام الماضي 2023، على امتداد 100، أو 125 كم جنوب منجم ذهب المنصورة-المسرة الحالي في محافظة الخرمة بمنطقة مكة المكرمة، وبطاقة إنتاجية سنوية تبلغ 250 ألف أوقية.
وهذه الاحتياطيات المكتشفة من الذهب، ستحفز شركة التعدين العربية السعودية (معادن) المملوكة للدولة، لتكثيف أنشطة الحفر، والمضي قدماً في تطوير هذه الأنشطة، سواء حول المنصورة-المسرة، أو في مناطق أخرى جديدة، ضمن برنامج معادن للتنقيب المكثف الذي يواصل جهوده واكتشافاته منذ إطلاقه قبل عامين، والذي يقع في سياق أهدافه، تدشين خط لإنتاج المعادن، وتطوير قاعدة الموارد المعدنية للمملكة.
ويبقى الهدف من تطوير هذا البرنامج، هو الإسراع في تحقيق الطموح الأسمى للحكومة السعودية، وهو تحويل قطاع التعدين السعودي ليصبح الركيزة الثالثة لاقتصاد البلاد، خاصة وأن المناطق الجديدة المكتشفة، يمكنها أن تشكل حزامًا ذهبيًا بارزًا على نطاق عالمي، وذلك في ظل ما تشير إليه مواردها المتاحة، سواء في العمق أو على طول المنطقة، من إمكانية وجود ثروة وفيرة من الذهب والمعادن الأخرى.
وبصفة عامة، تقدم هذه الاكتشافات الجديدة من الذهب، دليلًا مهمًا على الثروة المعدنية غير المستغلة في المملكة العربية السعودية، ولذلك تولي وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية، اهتماماً بالغاً بزيادة هدف مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى نطاق يتراوح بين 70 مليار دولار و 80 مليار دولار بحلول عام 2030.
وهذه الأرقام السابقة، تعني أن طموحات الوزارة تزداد تفاؤلاً وإصراراً وثقة في تحقيق أهدافها، بدليل هذا الاستهداف التصاعدي، من 64 مليار دولار، إلى 70 أو 80 مليار دولار، ولعل إعلان الوزارة عن نيتها تقديم توقعات جديدة ومحدثة بخصوص مستجدات حجم الاحتياطيات المعدنية السعودية البالغة 1.3 تريليون دولار، يؤكد مصداقية توجهاتها نحو تعزيز الجهود الرامية إلى تكثيف المسوحات الجيولوجية واسعة النطاق في جميع أنحاء المملكة، لتحقيق إيرادات أكثر مما تم تحقيقه فعلياً خلال العام الماضي في قطاع التعدين، وهي الإيرادات التي تجاوزت 1.5 مليار ريال سعودي.
اقرأ أيضًا: بين حصاد 2023 وانطلاقة 2024 تحولات سعودية واعدة في الاقتصاد والسياسية والاستراتيجية
حجم احتياطات الذهب
ووفقاً للمؤشرات الصادرة عن شركة معادن نهاية العام الماضي 2023، وبداية العام الحالي 2024، يقدر حجم احتياطيات الذهب في منجم المنصورة والمسرة بسبعة ملايين أوقية، وبطاقة إنتاجية سنوية تبلغ 250.000 أوقية، ولأن الحكومة السعودية تركز على تسريع أنشطة التنقيب والتعدين والحد من الاعتماد على العائدات النفطية، قامت وزارة الصناعة والثروة المعدنية، تماشيا مع هذا الجهد، بالتوقيع خلال يناير الماضي 2024، على مذكرات تفاهم مع كل من روسيا والمغرب وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر لنقل الخبرات والمعارف وتعزيز الجهود التنقيبية المشتركة.
ومن جهة أخرى، أعلنت الوزارة عن تقديم دعم لجهود التنقيب عن المعادن في المملكة، بقيمة 685 مليون ريال سعودي (182 مليون دولار)، وذلك بهدف تقليل المخاطر التي تواجهها شركات التنقيب خلال مراحلها الأولى، كما أصدرت وزارة الصناعة والثروة المعدنية، بالتعاون مع وزارة الاستثمار، أكثر من 115 ترخيصا صناعيا جديدا خلال فبراير 2024، ليصل إجمالي عدد التراخيص الصناعية الممنوحة منذ بداية العام إلى 270، ولتمتلك البلاد في بدايات مارس 2024، ما يزيد على 11750 مصنعا، إما قيد التشغيل أو قيد الإنشاء.
وتماشيًا مع التزامها بتطوير قطاع التعدين وتعزيز التعاون الدولي، تسعى المملكة بنشاط إلى فرص التعاون مع الدول الأجنبية؛ فعلى سبيل المثال أعلنت وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية عن مذكرة تعاون في مجال التعدين مع وزارة الصناعة اليابانية، كما تجري مناقشات جادة بين إيطاليا والمملكة العربية السعودية بشأن الاستثمارات المشتركة في مختلف القطاعات، بما في ذلك السيارات والتعدين والنفط والغاز والدفاع والهيدروجين والفضاء.
ومن المتوقع أن تدعم المبادرات المختلفة التي أطلقتها وتطلقها من حين لآخر، وزارة الصناعة والثروة المعدنية بالمملكة، نمو قطاع التعدين، وتعزيز الاستثمار في هذا القطاع، وتسريع عملية الاستكشاف، وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، ولعل ما أعلنته الوزارة في أوائل أبريل من العام الحالي 2024، من إتاحة ست فرص استثمارية جديدة في مجال التعدين للمستثمرين المحليين والدوليين، ودعوة هؤلاء المستثمرين لتقديم عطاءات للحصول على تراخيص جديدة للتنقيب في مساحة إجمالية تزيد عن 940 كم2، عن خامات الذهب والنحاس والزنك والرصاص والفضة في جميع أنحاء المملكة، يدل على جدية التوجه السعودي في النهوض بالقطاعات غير النفطية، وبقطاع التعدين على وجه الخصوص.
اقرأ أيضًا: محددات السياسة النفطية الراهنة للسعودية في ميزان الاقتصاد والأمن والتحالفات الدولية.. المغزى وسؤال المرحلة!!
إيرادات متزايدة لخزينة الدولة
إن اكتشاف الذهب مؤخرًا في المملكة العربية السعودية لديه القدرة على توليد أرباح وإيرادات متزايدة لخزينة الدولة، وهذا بدوره سيمكن البلاد من تخصيص المزيد من الأموال لمشاريع الاستثمار والتنمية، وبالتالي تعويض الخسائر المتكبدة من انخفاض إنتاج النفط، ويعد الاكتشاف الأخير لمنطقة الذهب الجديدة أحد المحفزات لاستكشاف المزيد من مناجم الذهب في جميع أنحاء البلاد، كما أنه يسلط الضوء على أن مثل هذه الاكتشافات تلعب دورا حاسما في استراتيجيات شركات التعدين العالمية المساعدة في المملكة بصفة عامة، وفي نمو شركة التعدين السعودية(معادن) بصفة خاصة.
كما أن هذا الاكتشاف، سيشكل عاملاً تحفيزياً مستداماً للحكومة السعودية على زيادة إنفاقها واستثماراتها في مجال التنقيب عن المعادن المختلفة ضمن مشاريع واسعة النطاق،كجزء من جهودها لدعم القطاع غير النفطي، وسوف يساعدها على إتمام ذلك، أن البلاد شهدت نموا اقتصاديا قويا خلال العام الماضي 2023، متجاوزة العديد من دول مجموعة الـــــ 20 الأخرى، ومحققة أول فائض في ميزانيتها منذ ما يقرب من عشر سنوات، حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي 5.9%، متجاوزا الأداء الاقتصادي العام، على الرغم من المؤثرات السلبية الاقتصادية الناتجة عن انخفاض إنتاج النفط وأسعاره.
ومستقبلاً، سيشكل قطاع التعدين في المملكة، مصدراً مهماً من مصادر الحصول على المعادن الثمينة، وفي مقدمتها الذهب، ذلك المعدن الأصفر الذي يشكل أساساً بارزاً للثروة الملموسة، والذي يعد امتلاكه بمثابة انعكاس حقيقي للازدهار، ولضمان الوقوف الراسخ في وجه الأزمات الاقتصادية المفاجئة والعاصفة؛ لأنه يُظهر تقلبا أقل مقارنة بالسلع الفردية والأسهم التجارية والعملات.
وبعد، إن الاستكشافات السعودية للمعادن الثمينة لديها القدرة على تحقيق فوائد اقتصادية كبيرة، ويمكن من خلالها لهذا البلد أن يستخرج موارده وأن يولد إيراداته وأن يخزنها ضماناً للاستقرار الاقتصادي، وفي حال استمرت هذه الاكتشافات والمسوحات التنقيبية عن الذهب والمعادن الأخرى في التقدم، فإن المملكة العربية السعودية سيكون لديها الفرصة للحفاظ على مكانة رائدة بين الدول العربية من حيث احتياطياتها من الذهب، بل قد تصعد أيضا في التصنيف العالمي لأفضل 20 دولة لديها أكبر احتياطيات من هذا المعدن النفيس.
اقرأ أيضًا: السعودية وكوريا الجنوبية.. العلاقات التجارية والاقتصادية تنتقل نحو مرحلة استراتيجية جديدة