كتب: محسن حسن
تعد الطبقة الوسطى في أي مجتمع هي عماد النهضة والإنتاج والعطاء المتواصل من أجل حماية الاقتصاد الوطني وتحصين قطاعاته المختلفة والحيوية ضد أية أزمات أو مفاجآت غير سارة على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي؛ وقديماً لم تكن هذه الطبقة معروفة أو محددة في المجتمعات العربية، خاصة في الفترات الضاربة في القدم وفيما قبل فترات الاستقلال وظهور الدولة الوطنية الملكية أو الجمهورية، وإنما كانت هذه الطبقة معروفة في المجتمعات الغربية بدورها الكبير في حفظ استقرار المجتمع، الأمر الذي ساعد في العقود اللاحقة على اشتهار وتكوين هذه الطبقة المتوسطة بين شعوب العالم، بحيث أصبحت تشكل اليوم ما يزيد على 35% من سكان الأرض، وهي في طريقها لتجاوز هذه النسبة بكثير، حيث يتوقع لها أن تزداد خلال الخمس سنوات القادمة بواقع أكثر من 500 مليون نسمة، ما يعني أنها ستشكل مستقبلاً أكثر من نصف سكان الكوكب.
وفي المملكة العربية السعودية، تشكل الطبقة الوسطى المعاصرة، ركناً ركيناً في الحفاظ على تماسك المجتمع وصموده في وجه التحديات الجديدة التي تجتازها استراتيجية 2030 الرائدة في الإصلاح والتحديث، وبرغم أن المملكة كانت قبل إطلاق هذه الاستراتيجية، تعتمد اعتماداً كلياً على النفط والريع النفطي، إلا أن مهددات النضوب النفطي كانت حاضرة في الذهنية التخطيطية للبلاد، ومن ثم، فقد كان الاهتمام بإعداد الطبقة الوسطى ودعمها الرسمي، حاضراً حتى قبل ظهور وبروز تلك المهددات المستقبلية للاقتصاد النفطي، وهو ما مهد في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهد الأمير محمد بن سلمان، لاستهداف هذه الطبقة بالتنمية والرعاية والتكوين، وكانت تصنيفات المنتمين إلى الطبقة المتوسطة عند انطلاق الرؤية السعودية تتم بالنظر إلى دخل الفرد السعودي؛ فمن يتحصل شهرياً على ما قيمته عشرون ألف ريال سعودي، فهو ينتمي إلى هذه الطبقة، على أن البيئة الاجتماعية السعودية بصفة عامة، كانت في حاجة ماسة إلى إخضاع هذا التصنيف لمزيد من الدقة والتمحيص، خاصة مع تفاوت دخول وموارد الأفراد بين المدن والمناطق السعودية بنسب قد تزيد على 30%.
وفي ضوء هذا التفاوت، كانت ـــ فيما قبل رؤية 2030 ــ تظهر الكثير من التحديات والتهديدات التي تستهدف هذه الطبقة في المدن والمناطق السعودية ذات الكثافة السكانية المرتفعة، وهي التحديات التي كان يأتي على رأسها ما شهدته بنية الاستهلاك العام في منطقة الخليج من ارتفاع في الأسعار والنفقات، والتأخر في بعض المشروعات الخدمية ومشروعات البنى التحتية نتيجة تقصير الجهات الإدارية المسؤولة عن تنفيذ الخطط الحكومية في الوفاء بالتزاماتها، وخاصة على مستوى قطاعات حيوية مثل قطاع التعليم والإسكان والخدمات الصحية وخدمات النقل، ما كانت معه الأسرة السعودية تعاني من تآكل النفقات الشهرية ومن التأرجح في كثير من الأحيان بين الانتماء للطبقة الوسطى أو الهبوط منها إلى الطبقة الأقل أو الدنيا؛ وذلك باعتبار حجم التزايد الذي كان مطرداً في النفقات الأسرية المشار إليها، والتي كانت تتجاوز عام 2016م معدل الــ 15 ألف ريال سعودي بخلاف نفقات إضافية أخرى تخص التغذية وغيرها، وهذا في مجمله أصبح الآن في عداد الماضي؛ حيث أفضى ما يشهده السعوديون من تطوير مستمر ودائم في الخدمات والبنى التحتية والمشروعات الاستثمارية الراهنة، إلى علاج الكثير من تلك المشكلات الخاصة بنفقات الأسرة السعودية المنتمية إلى الطبقة المتوسطة.
ولكن رغم ذلك، لا يمكننا التسليم بعدم حاجة المملكة إلى المزيد من الإصلاحات المعنية بتحصين وحماية الطبقة الوسطى في البلاد، فبالعودة إلى الماضي قليلاً سنجد أن هذه الطبقة السعودية، وخلال الفترة من عام 2000 وحتى العام 2016، كانت واقعة تحت تأثير عاملين من أهم العوامل المؤثرة في مسارات الطبقات الوسطى الإقليمية والعالمية، وهما التعليم والحالة الاقتصادية الخاصة بالدخل؛ بحيث كان القصور التعليمي يؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى وإلى هبوط أفرادها إلى الطبقة الدنيا، وهو ما كان يساهم فيه أيضاً العامل الاقتصادي من حيث مستوى الدخل، وإلى جانب هذين العاملين، كان التفاوت الكبير بين قدرة السعوديين على التكيف مع السياسات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية السائدة في بيئاتهم المختلفة، يشكل هو الآخر أحد أهم التحديات المؤثرة في مسار الطبقة الوسطى السعودية، وهذا الاسترجاع لملامح ومشكلات الطبقة الوسطى في تلك الفترة، لابد وأن يكون حاضراً وماثلاً في المرحلة الراهنة عند دعم ومساندة هذه الطبقة في النهوض ببنيتها وبتكوينها وبمسارها الوطني الهادف إلى استعادة قوتها وتأثيرها الإيجابي في بناء المجتمع السعودي الحديث، وهو بالفعل ما يحدث من خلال رؤية 2030 وما بعدها من استراتيجية 2040 المزمع إطلاقها عما قريب.
اقرأ أيضاً: الروبوتات ستتجاوز البشر في العدد عام 2040
على أن اهتمام الرؤى والاستراتيجيات السعودية عموماً بالتركيز على محورى التعليم والاقتصاد، يمثل أهمية قصوى في استعادة بريق الطبقة الوسطى السعودية ضمن سياق المرحلة الراهنة من التطوير؛ إذ يشكل اهتمام القيادة السعودية الحالي بالتنمية البشرية بين المواطنين المحليين، حجر الزاوية في تهيئة كل سعودي وسعودية لتحمل المسؤولية الشخصية في إيجاد الفرص الوظيفية والمهنية الكفيلة بتوفير دخول مالية معتبرة وكافية للاستقرار والأمن الاقتصادي والأسري؛ حيث تشهد الأجيال السعودية المعاصرة والراهنة، طفرة غير مسبوقة في التأهيل والتدريب والسعودة على كل المستويات، كما تشهد السياقات المهنية والحرفية والوظيفية المختلفة في البلاد، تحسناً كبيراً من الناحية الاقتصادية، وهو ما يساعد بدوره على الجمع بين إيجابيات الحالة التعليمية والتأهيلية في سياق التنمية البشرية، وبين إيجابيات الحالة الاقتصادية للأفراد، والتي تعينهم على الارتقاء بمستوى دخولهم وبمستوى حالتهم المعيشية والشخصية إلى جانب حالة ذويهم وأسرهم ممن يقعون تحت مسؤوليتهم وإعالتهم.
وفي هذا السياق السابق، لابد من لفت الانتباه إلى دور المشروعات الريادية في تحقيق الجمع بين الإيجابيتين السابقتين، فمن الناحية العملية، تعد هذه النوعية من المشاريع مهيأة على الدوام لعدم الحاجة إلى نفقات حكومية أو رسمية كبيرة أو خارج نطاق القدرة الوطنية والمالية والاقتصادية للدولة، بل على العكس من ذلك، تتسم مجمل هذه المشاريع بانتماء أغلب القائمين عليها لمنظومات مجتمعية استثمارية قادرة على تذليل العقبات التمويلية؛ حيث يجمع المشروع الريادي في الغالب الأعم بين ذوي الجهد والإبداع والتخصص من جهة، وذوي القدرة على التمويل المالي والاستثماري من جهة أخرى، ما يعني أن أغلب هذه المشاريع لا تحتاج من الدولة الوطنية إلا إلى مباشرة دورها في تذليل العقبات الإدارية والتشغيلية أمام أصحابها من رواد الأعمال السعوديين الشباب، والذين لا يفتش معظمهم عن الدعم المالي الرسمي بقدر تفتيشهم عن الحصول على الجهود الرسمية الوطنية المعنية بإزالة العقبات والعوائق البيروقراطية التي تحول دون تمكنهم من إطلاق مشاريعهم.
وإذا كنا نلفت النظر هنا إلى أهمية المشاريع الريادية في هذا السياق، فلأن رواد الأعمال السعوديين هم في الحقيقة يشكلون اللبنات الأولى في استعادة بناء الطبقة الوسطى السعودية، وحمايتها من التآكل، وذلك لما تتميز به هذه الشريحة الريادية للأجيال السعودية الناشئة، من قدرة خلاقة ومبدعة على تنويع الاقتصاد الوطني وتنويع الأنشطة الجاذبة للاستثمارات والموارد المالية الداعمة للاقتصاد غير الريعي وغير النفطي؛ فبفضل هذه الشريحة، تستطيع المملكة الحفاظ على زخم التنويع الاقتصادي، خاصة مع انفتاح الأفق السعودي الراهن على التلاقي الحضاري والاجتماعي والثقافي مع دول وشعوب العالم أجمع، ما يتيح أمام المشروع الريادي السعودي فرصاً واعدة للتطوير الذاتي والتحديث الخبراتي القائم على اعتزاز السعوديين بمنتجهم المحلي والوطني، ورغبتهم الصادقة في تسويقه ثقافياً وإعلامياً واقتصادياً لدى عموم المجتمعات الأخرى، ونحن هنا لا نقول بتواضع المنتج السعودي، بقدر ما نؤكد على جدارته في الإنتاجية والخدماتية والإنسانية، ناهيك عن حضوره الحضاري والفني والإبداعي مما لا يحتاج إلى كبير تأكيد وتعريف.
اقرأ أيضاً: «ميلاف كولا».. السعودية نحو العالمية بمنتج جديد!
وفي واقع الأمر، تحتاج الخطط والرؤى الاستراتيجية القادمة في المملكة العربية السعودية، إلى الخروج من نمط الغفلة والتقليد في مسألة إصلاح ورعاية وتحصين الطبقة الوسطى السعودية، وذلك على أكثر من صعيد؛ الأول يتمثل في ضرورة التصنيف الدقيق لشرائح المستحقين للدعم الحكومي والرسمي، وعدم الركون إلى قناعات متوهمة بأن جميع الشرائح المجتمعية السعودية في غنى عن الدعم؛ لأن مثل هذه القناعات الخادعة قد يترتب عليها إهمال الرعاية الرسمية للمستويات الدنيا من الطبقة المتوسطة، وهو ما يساهم في الإضرار بها وبجهودها، ولعل تحديد المستويات المستحقة للدعم النقدي هو الأولى على كل حال في هذه المرحلة جنباً إلى جنب مع ضمان وصول الدعم لمستحقيه الفعليين؛ لأن عدم وصول هذا الدعم لهؤلاء المستحقين له على وجه الحقيقة والدقة والصواب، سيشكل مظهراً من مظاهر الفساد الواجب على الدولة علاجها ومواجهتها.
أما الأمر الثاني، فقد تمت الإشارة إليه منذ قليل، وهو مواجهة الفساد؛ لأنه يشكل التهديد المباشر على نمو الطبقة الوسطى؛ إذ يؤدي إلى استنزاف موارد الفقراء ومحدودي الدخل ويُضعف من قدرة الدولة الوطنية على تحقيق وتطبيق خطط الإصلاح، كما يتسبب في تعطيل إتمام المشروعات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، بالتزامن مع كونه أحد مظاهر العبث بالمقدرات الوطنية وبالطبقات الاجتماعية وبالحياة المعيشية لعموم المواطنين، ما يستلزم إحكام القبضة الوطنية على المتورطين في الفساد المالي والإداري بشتى مستوياته وأنماطه وأشكاله، كخطوة ضرورية من خطوات حماية المال العام، والاحتفاظ بالموارد وترشيدها من أجل حماية الطبقات الاجتماعية من التشرذم والتفكك والانهيار بفعل الضعف الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، خاصة وأن طبقة المتنفذين والمفسدين يعتمدون في الغالب نهجاً إقصائياً لمن هم دونهم من عموم المواطنين، كما يسعون دائماً إلى إحكام قبضتهم على أية موارد تقع تحت أيديهم، وبطرق احتيالية لا يجيد المجتمع الغافل اكتشافها أو تطويقها، الأمر الذي يستدعي المزيد من الحذر والرقابة الأمنية والقانونية والتشريعية الهادفة إلى غربلة الفساد وإضعاف شوكته في جميع القطاعات الحيوية والوطنية، وعلى رأسها القطاعات الاقتصادية المتماسة مع محاور وخطط الإصلاح الاجتماعي ورعاية الطبقات الاجتماعية في المملكة.
ومن جهة أخرى، لابد من الاعتراف بأن طفرة الحقوق الإنسانية التي لا تزال تتحصل عليها نساء المملكة من حين إلى آخر في المجتمع، وخاصة على مستوى أحقية المرأة السعودية في حرية الحركة والتملك وإدارة المشاريع والسفر وخلافه، يعد من قبيل النقلة النوعية الداعمة للطبقة الوسطى السعودية، فمن المعروف أن الطبقات الوسطى العالمية تلعب فيها المرأة دوراً محورياً في البناء والتنمية، وهو ما يحدث في المملكة الآن بعد أن أدركت القيادة السعودية الواعية أهمية تنحية القيود المقيدة لتمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً وعلى كل المستويات؛ فبعد أن شهدت المملكة في الماضي وخلال التسعينيات تحديداً، مناداة بعض الأكاديميين ودعوتهم لتطبيق عقوبات القصاص ضد نساء سعوديات تظاهرن من أجل السماح لهن بقيادة السيارة، يتمتع الوسط الثقافي والأكاديمي السعودي اليوم بحالة تفهم واعية ومدركة لأهمية الدور النسائي في كافة المجالات الحيوية الوطنية والمحلية والإبداعية والأسرية وغيرها، ما يعني أن الرؤى السعودية الإصلاحية، نجحت في تحويل الوعي بقدرات النساء على العطاء والإنتاج، من صورته ونظرته السلبية القديمة، إلى نظرة أخرى مغايرة وإيجابية، ترتب عليها انفتاح مجتمعي وثقافي وحضاري كبير على دور المرأة في المجتمع، وهو بدوره ما سيدعم بناء الطبقة الوسطى السعودية، وسيساهم في تعزيز الجهود الرامية إلى حمايتها وتحصينها ضد التداعي أو الانهيار.
وبشكل إجمالي، يتطلب الاستمرار في بناء الطبقة الوسطى السعودية وحمايتها وتحصينها المشار إليه، أن تتوجه خطط الإصلاح السعودي الحديثة، خلال المرحلة القادمة، نحو استثمار التنوع المهني والحرفي والإبداعي المركوز في عمق البيئة المحلية الوطنية وفي عمق نسيجها البشري والمجتمعي، والذي لا ينقصه الإبداع الخلاق في كل المجالات والأنشطة الإنسانية، ما يعني أن النسيج البشري السعودي مهيأ في الوقت الحالي إلى جهود تعزيز بناء الطبقة الوسطى عبر استغلال وتوظيف هذا التنوع المجتمعي والبيئي والإنساني لتحقيق هذا الهدف، ومن ثم، لابد من تخصيص مؤشرات احترافية لقياس وضعيات هذه الطبقة بين السعوديين، ورصد الإحصاءات الوطنية والرقمية الدقيقة بشأنها حتى يسهل تحديد مشكلاتها ومن ثم علاج هذه المشكلات في وقتها المناسب قبل فوات الأوان، مع ضرورة الحذر من تلك النوعية من مخاطر الأنوميا واللامعيارية وغياب القانون، تلك التي أصابت الطبقة الوسطى في المجتمعات الأوروبية والصناعية القديمة، وتسببت في انهيارها وتفككها وغياب تأثيرها النهضوي الهادف إلى إحياء جنبات وقطاعات الاقتصاد الوطني، نذكر هذا هنا، لأن التحولات التي تشهدها المملكة في الوقت الراهن، تميل إلى وتيرة من التغير السريع الرامي إلى اختصار الوقت والجهد، وهو ما قد تظهر معه بعض ملامح ومخاطر الأنوميا المؤسسية والاجتماعية، بفعل الديناميكية المسرعة في التغيير والتحول، ما يقتضي لفت الانتباه إلى أهمية إدراك ذلك تجنباً للوقوع في أخطاء ضارة بالطبقة الوسطى وببنيتها العاملة والمنتجة.
اقرأ أيضاً: الرياض على موعد مع «بلاك هات» للأمن السيبراني