الدحَّة السعودية من الفنون الشعبية السعودية التقليدية التي تحمل في طياتها إرثاً عريقاً من أسلوب الحياة البدوي، وقد نشأت هذه الرقصة في المنطقة الشمالية من المملكة، وتمثل حجر أساس ثقافي يربط الأجيال بتراثها.
تعرف الدحَّة أيضاً بـ«الدحِيّة» و«أنفاس الفرسان»، لأهمية التوازن بين الحركة والنفس في أدائها، وهي حاضرة بقوة في المهرجانات الوطنية، ما يعكس مكانتها المميزة في الثقافة السعودية وتاريخها.
نشأت الدحَّة، مثل العديد من الرقصات التقليدية في المملكة العربية السعودية، في أجواء أهازيج الحرب، فهي إحدى الرقصات الحربية البارزة التي ترتبط بأداء الرجال حصراً، وتُعبّر عن الاستعدادات القتالية للمحاربين، وتنقل المهارات القتالية بأسلوب فني يعكس قوة العزيمة والشجاعة.
تتجذر الدحَّة بعمق في أسلوب الحياة البدوي، وقد تطورت من أصولها في منطقة تبوك والمحافظات المحيطة بها إلى تقليد محبوب يتردد صداه عبر الأجيال، من الأكبر سناً إلى الأصغر، وينبع اسمها من صوت «الدّح» الذي يُصدِره المشاركون عبر الصياح والتصفيق، يُمارَس هذا الفنّ الشعبي اليوم في المناسبات الاجتماعية كالأعراس والأعياد، وفي المناسبات الوطنية.
اقرأ أيضاً: تسجيل 25 موقعاً تراثياً جديداً في الباحة
نشأة رقصة الدحَّة السعودية
رغم اختلاف الآراء بين المتخصصين حول بداية رقصة الدحَّة الشعبية في السعودية، فإن هذا التراث العريق لا يزال صامداً على مر السنين، ولكن تتعدد الروايات حول نشأتها وبدايتها.
يستعيد كبار السن ذكريات قديمة تعود إلى زمن بعيد، إذ يروي البعض أن رقصة الدحَّة نشأت عندما خرج مجموعة من رجال قبيلة عنزة مع جمالهم في رحلة ليلية، وأثناء توقفهم للمبيت، سمعوا أصواتاً قريبة، فقرروا استكشاف الأمر، واكتشفوا وجود جيش يتفوق عليهم عدداً وعتاداً، ما جعل المواجهة أمراً مستحيلاً، وفي تلك اللحظة، ابتكروا حيلة ذكية، حيث أطلقوا هديراً مع جمالهم بأصوات قوية، ليكي يوحوا للجيش بأنهم جيش ضخم، هذا الخداع جعل الجيش ينسحب كما جاء. ومن ثم، أضافوا إلى هذه الفعالية الشعر والرقصات، لتصبح الدحَّة رمزاً حيوياً للتراث الثقافي السعودي.
يُقال أيضاً، إن رقصة الدحَّة كانت تمارس قديماً قبل انطلاق الحروب لإشعال الحماسة بين أفراد القبيلة، وعند انتهاء المعارك كذلك، حيث كان المشاركون يصفون ما جرى من بطولات وأفعال.
ومن الروايات المتداولة حولها، يُقال بأن جذورها تعود إلى معركة «ذي قار» التاريخية، وهي إحدى أبرز المعارك التي خاضها العرب ضد الفرس، والتي أصبحت رمزاً للانتصار والكرامة، وأنه في تلك المعركة، ابتكرت قبيلة بكر بن وائل صيحة الدحَّة، التي شُبّهت بزئير الأسود وهدير الجمال، حيث كانت تهدف إلى تحفيز المحاربين وبث الرعب في قلوب الأعداء، ولأن الفيلة التي استخدمها جيش الفرس كانت تخاف من الأصوات العالية، أصبح هذا الصوت عنصراً حاسماً في زعزعة صفوفهم.
اقرأ أيضاً: المرقوق على الطريقة النجدية نكهة أصيلة بالتراث سعودي
ولكن، يرى عبد الله بن عبار، الباحث في التاريخ، أن الربط بين رقصة الدحَّة ومعركة ذي قار هو رواية لم تُثبت صحتها، وقد انتشرت على مر الزمن لتترسخ في عقول الناس، ويؤكد أن هذه الرقصة «لا علاقة لها بالمعركة بتاتاً».
ويضيف ابن عبار أن الدحَّة ليست سوى لعبة تقليدية، مشابهة للقلطة والعرضة والدبكة، فهي ليست مقتصرة على قبيلة معينة، بل تمارسها جميع قبائل الشمال، وأيضاً تُؤدى في الأردن وفلسطين.
كما يوضح ابن عبار أن معركة ذي قار كانت بين قبيلتين من ربيعة، وهما بكر بن وائل وعنزة بن أسد، حيث تصدوا لهجوم كسرى وقاتلوه بشجاعة، وانتصروا عليه بالسيوف والرماح وعزائم الرجال، وليس برقصة الدحَّة.
من جهة أخرى، يشير مختص آخر إلى أن الدحَّة كانت في الماضي رقصة الحرب، فعندما ينقلب ميزان المعركة لصالح العرب، كانوا يقومون بذبح «الحاشي»، حينها، يتجمع الرجال حول الحاشي المراد ذبحه، ويُصدرون أصواتاً لإفزاعه، ثم يتقدم أحدهم ليقوم بنحره بالسيف.
اقرأ أيضاً: الزي السعودي التراثي تقليد لا غنى عنه
كيف تؤدى رقصة الدحَّة؟
ورغم اختلاف الروايات تبقى الرقصة الشعبية جزء من الهوية السعودية التراثية، أما بالنسبة لكيفية أدائها، فتتميز بنية عرض الدحَّة بتنظيم دقيق، ويكمن جوهرها الحقيقي في التنافس الحماسي بين الشعراء، كل بيت من الشعر يُرد عليه بتفاعل من الصف المقابل، ويخلق حواراً شعرياً يتألق فيه ذكاء الشعراء وسرعة بديهتهم، إضافة إلى براعتهم اللفظية ومعرفتهم العميقة بالأدب التقليدي.
يتطور الأداء بعدها في رقصة إيقاعية تتناغم مع الكلمات، وتُختبر الموهبة الشعرية والبلاغة، بينما ينتظر الجمهور بفارغ الصبر الرد الذكي التالي، تتنوع القصائد بين المدح والفخر، والذكر، وحمد الله، والغزل، ويُؤدى كل ذلك بأسلوب قصصي يُجسد موضوع الاجتماع.
تأتي حركة الدحَّة في نهاية إنشاد الشعر، حيث يقوم المحوشي أو «الحاشي» برقصة مميزة أمام الصف أو بين الصفين، مُتسلحاً بسيفه أو عصاه، ومُتزيّناً بالبشت، ويلعب شخص آخر دوراً في هذه الرقصة، بينما تتفاعل الصفوف بتصفيق إيقاعي حماسي.
ومع اقتراب العرض من نهايته، تصل الأجواء إلى ذروتها في خاتمة مفعمة بالحيوية، وتتصاعد شدة التبادل الشعري إلى ذروة درامية، مصحوبة بارتفاع هائل في الأصوات التي تتردد صداه بين الحشود، وفي هذه اللحظات، يغوص الجمهور في حماسة العرض، وغالباً ما تُكرر هذه الخاتمة عدة مرات، مُطيلة الاحتفال الغامر بالثقافة والتقاليد والمجتمع.
اقرأ أيضاً: صناعة الخوص حرفة تراثية سعودية تروي تاريخ الأجداد
جدير بالإشارة، أنه على الرغم من انتشار رقصة الدحَّة في العديد من المناطق الشمالية، إلا أن دحَّة الجوف تتميز برمزيتها التي تتجاوز تلك الموجودة في المناطق الأخرى، إذ تعد هذه الرقصة جزءاً أساسياً من احتفالات الجوف بالأعياد الرسمية، وتبرز خاصة في الاحتفالات الوطنية، مثل اليوم الوطني والمهرجانات الوطنية، ومسابقات الأداء للفنون الشعبية في سوق عكاظ، وكذلك في مهرجان الثقافة والتراث.
ختاماً، نشأت معظم الرقصات الشعبية في المملكة العربية السعودية في سياقات حربية، وتعد موروثاً ثقافياً لا يقبل الابتكار، وإلى جانب رقصة الدحَّة تبرز العرضة النجدية، الخطوة العسيرية، الفجري أو الحساوي، والقزوعي، وكلها رقصات تراثية تتناقلها الأجيال.
اقرأ أيضاً: رحلة ممتعة في عالم الأطباق النجدية الشعبية