بئر زمزم، هذا المعلم المقدس الذي يروي العطشى بمياهه المباركة منذ آلاف السنين، لا يزال حتى اليوم لغزاً غامضاً يحمل في كل قطرة من مياهه أسراراً روحية وغيبية، يسعى العلماء جاهدين لاكتشافها، ويتفكّر في عظمة خلقها العاكفون والمنقطعون للعبادة، فمَا هي آخر الاكتشافات العلمية حول بئر زمزم؟ وما هي قصة بدايته التي يسردها التاريخ؟
أسرار علمية عن تكوين ماء زمزم
توصّلت آخر الدراسات العلمية إلى أن ماء زمزم قد تكوّن في باطن الأرض منذ حوالي 6175 عاماً، وأظهرت النتائج أن هذا الماء نشأ بعد العصر الجليدي الذي غطى الجزيرة العربية، في حين لا يتجاوز تدفق المياه من الاتجاهات الثلاثة لبئر زمزم 5000 عام.
قاد رحلة الاستكشاف العلمية هذه، الدكتور عبد الله بن محمد العمري، الأستاذ بجامعة الملك سعود والمشرف العام على مركز الدراسات الزلزالية، وقد فتحت أبواب جديدة لفهم هذا الماء المقدس.
واعتمدت الدراسة إلى تحليل عينات من ماء زمزم باستخدام تقنية الكربون المشع، واجتاز الباحثون مرحلة فحص 49 عنصراً فيزيائياً وكيميائياً وإشعاعياً، في مختبرات داخل السُّعُودية وخارجها، لتأكيد جودته الخاصة.
والنتائج التي خرجت بها هيئة الغذاء والدواء السُّعُودية بعد سنوات من البحث، كانت شهادة على عظمة هذا الماء، فقد أظهر العمري أن خصائص ماء زمزم تختلف تماماً عن المياه العادية، وكأنه معجزة إلهية.
وقام الدكتور العمري بتجميع نتائج دراسته في كتاب موسوعي يتناول جوانب عدة لبئر زمزم، يبدأ الكتاب برحلة تاريخية ودينية تعود إلى زمن النبيين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وينتقل عبر العصور وصولاً إلى العصر الحديث، ويسلط الضوء على الفوائد الطبية لماء زمزم ودوره في علاج عدة أمراض، ويستعرض المخاطر المحيطة بالبئر، بما في ذلك تأثير الزلازل.
اقرأ أيضاً: مؤتمر الحج 2025: تنافسية بين مقدمي الخدمات لضيوف الرحمن
قصة بئر ماء زمزم
يؤكد الكاتب السعودي عمر المضواحي، المتخصص في الكتابات حول الأماكن المقدسة، أن بئر زمزم من أقدس آبار المياه لدى المسلمين، إذ لا يوجد شراب على وجه الأرض يضاهي مكانة مياهه في قلوبهم، ويحمل هذا الماء، الذي يتميز بطعمه المميز، قدسية خاصة، ويؤمن الناس بأنه يحتوي على أسرار تفوق قدرة العقل البشري على استيعابها، كما يلاحظون تغير خواصه ومنافعه تبعاً لحالة شاربه ورغبته، وكأنه أمر سحري غامض.
بدأت قصة هذه البئر في قلب الصحراء القاسية، حيث لا يُسمع إلا صفير الرياح، وكان حينها النبي إبراهيم عليه السلام، قد تلقى أمراً إلهياً بترك زوجته هاجر وطفله الرضيع إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، هو مكة المكرمة.
تلاشت المؤن سريعاً، وبدأت هاجر تشعر بالخوف والقلق على رضيعها، وأخذت تسعى بين جبلي الصفا والمروة، تبحث عن قطرة ماء تنقذ صغيرها، وفي لحظة من لحظات الإيمان، هبط جبريل عليه السلام، وفجر الماء من تحت قدمي الطفل الرضيع، حيث كان ينبع كالنور وسط الظلام.
هاجر، وقد امتلأت عينيها بالدهشة، بدأت تغرف الماء بيديها، تضعه في القربة، وهي تردد: “زمّي زمّي”، ومن هنا، جاءت تسمية هذا النبع المبارك بئر زمزم، علامة على رحمة الله وسط القحط والخوف.
ومع مرور الزمن وتكاثر القبائل، جفّت مياه البئر، وظهرت أسطورة دفنه، لكن مكة، ظلّت متألقة بتجارتها ونموها، حتى جاء عبد المطلب بن هاشم، الذي استجاب لنداء رؤيا في المنام، وحفر البئر من جديد، ليتدفق الماء من جديد ويغمر الحجاج بحلاوته.
استمر عبد المطلب في مهمته النبيلة حتى وفاته، ليخلفه العباس بن عبد المطلب، وعندما دخل النبي مكة يوم الفتح، استلم السقاية من العباس، والحجابة من عثمان بن طلحة.
اقرأ أيضاً: من إبراهيم الخليل إلى محمد (ص).. قصة سدانة الكعبة المشرفة
البئر المقدسة في عهد ملوك السُّعُودية
اليوم تقع بئر زمزم في قلب المسجد الحرام بمكة المكرمة، غربي المملكة العربية السُّعُودية، وتحديداً في الجهة الشرقية للكعبة المشرفة، حيث تبعد عنها نحو 21 متراً، محاذيةً للملتزم.
وقد وصف الأزرقي بئر زمزم في عهده بأنها تمتد من أعلاها إلى قاعها على عمق ستين ذراعاً، وتحتوي على ثلاثة عيون للمياه، تتوزع بحيث تقع إحداها أمام الركن الأسود، وأخرى حذاء جبل أبي قبيس والصفا، وثالثة أمام المروة.
أما إبراهيم رفعت باشا، فقد أشار في وصفه إلى أن بئر زمزم تقع جَنُوب مقام إبراهيم، وذكر أن الزاوية الشِّمالية الغربية من البناء الذي يغطي البئر تتماشى مع الحجر الأسود، إذ تفصل بينهما مسافة تبلغ 18 متراً، وقد وصف البناء بأنه مربع الشكل من الداخل، حيث يبلغ طول ضلعه 5.25 متراً ومفروش بالرخام.
وشهدت بئر زمزم في عهد ملوك المملكة العربية السُّعُودية أكبر عمليات التوسيع والتطهير والعناية، بهدف تحقيق أهداف سامية، أهمها تخفيف الضغط والازدحام في منطقة الحرم الشريف نتيجة الإقبال الكبير على ماء زمزم، وضمان وصول الحجاج وزوار الحرمين الشريفين إلى مياه زمزم النقية بسهولة ويسر.
كان مبنى زمزم الذي يقع في وسط المطاف يتألف من عدة طوابق، حيث احتوى على رقبة البئر بالطوق النحاسي وغطاء البئر، وبكرة لرفع الماء تعود لأواخر القرن الرابع عشر، كما وُجد دلو نحاسي مؤرخ عام 1299 هـ، الذي نُقِل حالياً إلى متحف عمارة الحرمين الشريفين بأم الجود.
وفي عام 1377 هـ، أُزيل مبنى زمزم خلال توسعة المطاف، وتحوّل مدخل البئر ليصبح تحت صحن المطاف تسهيلاً للطائفين، حتى أُزيل بالكامل في التوسعة الأخيرة للمسجد الحرام.
وأكبر عملية تنظيف للبئر كانت عام 1400 هـ بأمر من الملك الراحل خالد، عقب أحداث الحرم، إذ شُكِّل فريق برئاسة المهندس يحيى كوشك مع غواصين لتنظيف البئر بشكل شامل ودقيق.
اقرأ أيضاً: واحة خيبر تكشف أسرار قرية عمرها آلاف السنين!
وفي عام 2010، أطلق مشروع الملك عبدالله بن عبد العزيز لتعبئة وتنقية مياه زمزم آلياً، يقع مصنع التعبئة على بعد 4.5 كيلومتر من المسجد الحرام، ويشمل مجموعة من المباني المتخصصة، مثل مبنى ضواغط الهواء، ومستودع عبوات المياه الخام، ومبنى خطوط الإنتاج، ومستودع العبوات المنتجة، حيث تصل طاقته التخزينية اليومية إلى 200 ألف عُبْوَة، بمساحة إجمالية تبلغ 13,405 أمتار مربعة، ليكون هذا المصنع مصدراً رئيسياً لتغذية الحرم المكي الشريف.
أما مياه زمزم، فتُنقَل إلى خزانات المسجد النبوي في المدينة المنورة عبر صهاريج مجهزة بمواصفات خاصة، لحماية المياه من أي مؤثرات، بمعدل 120 طناً يومياً، يرتفع إلى 250 طناً خلال المواسم، وتُقدم مياه زمزم في حافظات معقمة ومبردة، تصل إلى 7000 حافظة، تُوزع داخل المسجد النبوي وسطحه وساحاته، إضافة إلى نوافير الشرب المنتشرة في المسجد والمرافق المحيطة به.
جدير بالذكر أن بئر زمزم تحمل أسماء عدّة تؤكد على مكانتها وقدسيتها، منها مكتومة، ومضنونة، وشُبَاعَة، وركضة جبريل وهزمة جبريل، وشفاء سقم وغيرها الكثير، وكل اسم من هذه الأسماء يحمل دلالات عميقة ويظهر الجوانب الروحية والتاريخية لهذه البئر العظيمة.
اقرأ أيضاً: إحدى محافظات المدينة المنورة.. ماذا تعرف عن مهد الذهب في السعودية؟