مسجدٌ تاريخيٌّ عريق يقف شامخاً في أحد أقدم أحياء العاصمة السعودية الرياض، يحتضن بين أروقته النجدية الأصيلة تاريخاً طويلاً من العبادة والسكينة، وهو من بين المساجد المنتقاة ضمن مشروع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، إنه مسجد القبلي، تعالوا معنا لنعرفكم على تاريخه ومعالمه والتطويرات التي أعادت رونقه.
تاريخ مسجد القبلي ومعالمه
منذ ثلاثة قرون، وتحديداً في عام 1100هـ (1688م)، أُسِّس مسجد القبلي في حي منفوحة بالرياض، ليكون صرحاً دينياً ومعمارياً رائعاً على الطراز النجدي، استُخدمت في بنائه تقنيات البناء بالطين ومواد طبيعية، ليتكيف مع البيئة المحلية والمناخ الصحراوي الحار، يجسّد تصميمه متطلبات الثقافة المحلية، وقد شهد مئات الأحداث على مر السنين، كونه يتربع في أحد أشهر المواقع التجارية في المنطقة.
منذ لحظة تأسيسه، كان هذا المسجد محطّ اهتمام الأمراء وكبار رجال الدولة، الذين حرصوا على الصلاة فيه، وقد شهد عمليات ترميم عدة، أبرزها في عهد الملك عبد العزيز، عندما أمر بإعادة بنائه وتوسعته عام 1945 هـ لاستيعاب أعداد أكبر من المصلين. وتوالت عمليات الترميم، منها تلك التي جرت في عام 1994، والآن أيضاً ضمن مشروع ولي العهد السعودي.
اقرأ أيضاً: «قرية آل ينفع» لوحة ألوانها التاريخ وظلالها المستقبل!
تبلغ مساحة مسجد القبلي نحو 236 متراً مربعاً، ويمتاز بشكله المستطيل، تزيّنه مئذنة ترتفع نحو 6 أمتار، مشيّدة بمواد أولية مثل الطين والحجر، سقفه يعلوه شجر الأثل وسعف النخيل، ليسمح بدخول الضوء الطبيعي خلال النهار ويخفف من شدة الحرارة وليحميه من الغبار والأتربة التي تسود المناخ الصحراوي للمملكة.
تمتاز أبواب المسجد بزخارف هندسية رائعة، تتضمن تشكيلات متنوعة من الخطوط المستقيمة والدوائر والمعينات والمثلثات بألوان متعددة، أما نوافذه فهي مصنوعة من الخشب ولها مصراعان، تحميها شبكة حديدية من الخارج، وبعضها مزيّن بألوان زاهية ورسومات هندسية تأسر كل من يراها.
داخل المسجد، تتزيّن الأعمدة الحجرية بخرزات حجرية مرصوصة فوق بعضها، مغطاة بالجص والطين، وتحمل بيت الصلاة والخلوة، وفي الجهة الجنوبية، توجد ساحة تُعرف بـ”المنداة”، وفيها كان الأهالي يجتمعون لتبادل الأخبار والتشاور في شؤونهم اليومية.
ويقع المحراب الأساسي في بيت الصلاة في قلب المسجد، وسط جدار القبلة، بجانبه المنبر، ويفصل بينهما عمود حجري مستدير، كما يضم محراباً آخر مجوف الشكل في خلوته.
أما من الناحية الشرقية، تتواجد “السرحة”، وهي فناء مفتوح تبلغ مساحته نحو 311 متراً مربعاً، ويحتوي أيضاً على غرفة للإمام وقبو أسفل الفناء يُعرف بـ”خلوة المسجد”، وهو مخصص للصلاة خلال فصل الشتاء عندما تنخفض درجات الحرارة.
اقرأ أيضاً: على خطاه: مشروع ديني تاريخي يتصدر منصة X
تطوير المسجد
اليوم، يشهد مسجد القبلي مرحلة تاريخية جديدة، بعد إدراجه في مشروع تطوير المساجد التاريخية، إذ سيشهد زيادة في مساحته لتصبح 804 أمتار مربعة، ليتمكن من استيعاب 440 مصلياً بعد الانتهاء من الأعمال.
وتواجه فريق العمل في “مشروع تطوير المساجد التاريخية” أثناء عملية تطويره، وتطوير المساجد المبنية على الطراز النجدي عموماً، تحديات عدة، أهمها ندرة المواد التقليدية، لا سيّما الأخشاب المستخدمة في بناء المساجد، لذا فقد تم استيرادها ومعالجتها بطرق تقليدية لضمان جودتها والحفاظ على الهوية المعمارية المميزة للمساجد، ومن التحديات أيضاً أن هذا النوع من المساجد يتطلب دقة متناهية في تنفيذ التصاميم والزخارف، لضمان توافق القطع مع الطراز المعماري التقليدي.
اقرأ أيضاً: برنامج تطوير مشروع جدة التاريخية يحصل على تمديد لعامين إضافيين، ما السبب؟
مشروع تطوير المساجد التاريخية
ومن نافل القول، فقد أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا المشروع الرائد منذ سبع سنوات في إطار رؤية المملكة 2030، بهدف الحفاظ على الهوية العمرانية السعودية ونشر ثقافة المملكة وتراثها الحضاري إلى العالم، ويتمثل في ترميم وتطوير 130 مسجداً كل واحد منها يعدّ جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المملكة وثقافتها.
وفي المرحلة الأولى من المشروع، وعلى يد مجموعة من الخبراء والمتخصصين في مجال المباني التراثية، الذين يعملون بجد لإعادة إحياء الطابع المعماري المميز لكل مسجد، أُنجِز 30 مسجداً خلال عام 2020م بكلفة بلغت 50 مليون ريال، في فترة زمنية استمرت 423 يوماً.
ولهذا المشروع أهداف إستراتيجية أربعة وهي، تأهيل المساجد للعبادة، استعادة الأصالة العمرانية، إبراز البعد الحضاري للمملكة، وتعزيز المكانة الثقافية والدينية للمساجد، كما يسهم في تحقيق أهداف وطنية ودينية سامية، حيث يعزز السياحة الدينية والثقافية من خلال تسليط الضوء على المساجد التاريخية باعتبارها معالم حضارية مهمة، ويأتي هذا في إطار الالتزام بالاستدامة البيئية، إذ يتم استخدام مواد طبيعية وتقنيات صديقة للبيئة في عمليات الترميم.
اقرأ أيضاً: أشيقر.. جوهرة تاريخية و أقدم القرى في السعودية
سبق أعمال الترميم دراسات شاملة وتوثيق للأبعاد المعمارية والتاريخية لكل مسجد، وتم حصر التحديات والعوامل التي أدت إلى تدهور وضعها قبل التأهيل.
ويعدّ مسجد الرويبة في منطقة القصيم أحد أقدم المساجد التي اختيرت في المشروع، إذ يزيد عمره على 130 عاماً، وقد شهد ترميماً متقناً باستخدام مواد بناء تقليدية تحافظ على طرازه المعماري العريق، مع تحسين بنيته التحتية بإضافة أنظمة إنارة وتهوية حديثة.
أما مسجد الدويد في الحدود الشمالية، الذي بُني قبل 60 عاماً فهو الأحدث، وقد خضع أيضاً لعملية ترميم دقيقة، حافظت على تصميمه النجدي الأصلي مع إضافة تجهيزات حديثة تلبّي احتياجات المصلين.
وفي المدينة المنورة، أُعيد تأهيل مسجد الفتح، أحد المساجد السبعة الشهيرة، والذي يعود تاريخه لأكثر من 13 قرناً، وقد تم الحفاظ على طراز المسجد الأثري خلال أعمال الترميم، ليكون جاهزاً لاستقبال المصلين من جديد.
ختاماً، يمثّل مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية نموذجاً متكاملاً للحفاظ على التراث الإسلامي وتحديثه بما يتماشى مع تطلعات العصر، ويعكس طموح المملكة للحفاظ على مكانتها باعتبارها مركزاً إسلامياً عالمياً، ويعمل على الحفاظ على تاريخها العريق لتكون على مرأى أجيال المستقبل.
اقرأ أيضاً: «فيد التاريخية» تاريخ عريق ومعلم سياحي حيوي