في عالم باتت فيه القرارات الاقتصادية تعبر القارات وتترك آثارها على أبعد النقاط الجغرافية، لم يعد من المستغرب أن يؤثر قرار صادر عن الإدارة الأميركية في واشنطن على سوق العقارات في الرياض أو جدة. فكل إجراء اقتصادي دولي، خاصة عندما يتعلق بالتجارة والرسوم الجمركية، يمكن أن يشكل منعطفاً غير متوقع في مسيرة قطاعات حيوية كالعقارات في المملكة العربية السعودية، والتي تُعد إحدى ركائز رؤية 2030 ومصدراً رئيسياً للاستثمار المحلي والأجنبي.
قبل أسابيع، أعلنت الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على بعض الواردات من دول مجلس التعاون الخليجي، ضمن حزمة أوسع من القرارات التجارية. وسرعان ما بدأت التساؤلات تدور في أروقة الاقتصاد السعودي حول مدى انعكاس هذه الخطوة على سوق العقارات في المملكة. فهل ستكون التأثيرات دراماتيكية، أم أن الاقتصاد العقاري السعودي يمتلك مناعة كافية لامتصاص هذه الصدمة؟
زيادة الرسوم وتكاليف البناء
يرى خبراء اقتصاديون وعقاريون أن التأثيرات ستكون في المجمل محدودة، رغم توقعهم بحدوث ارتفاع في تكاليف استيراد مواد البناء تتراوح نسبته بين 2% و5%. فهذه المواد، التي تدخل في صميم عمليات البناء والتشييد، قد تشهد زيادات سعرية نتيجةً لارتفاع تكاليف الفولاذ، الألمنيوم، والخرسانة، خاصة أن هذه السلع تتأثر بشدة بأي تغيير في الرسوم الجمركية، نظراً لاعتماد السوق السعودية الكبير على استيرادها من الخارج.
وبحسب ما ذكره محمد حمدي عمر، الرئيس التنفيذي لشركة «جي وورلد»، فإن السوق السعودية واجهت سابقاً زيادات جمركية داخلية عام 2020، حيث تم رفع الرسوم على بعض المواد إلى 15%. ومع هذه التجربة السابقة، فإن السوق باتت أكثر استعداداً للتعامل مع مثل هذه التحديات، رغم ما قد تحمله من ضغط إضافي على هوامش الربح لدى المطورين العقاريين.
من المتأثر الحقيقي؟
بالتوازي مع ارتفاع الأسعار، يُتوقع أن تلقي التكاليف الإضافية بظلالها على بعض المشاريع ذات الهوامش الضئيلة، مما قد يدفع المطورين إلى إعادة النظر في تنفيذها، أو تأجيلها إلى حين استقرار الأوضاع. وهذا الأمر قد يسهم في تعميق الفجوة الحالية في سوق المساكن، ويؤثر على وتيرة تنفيذ المشاريع السكنية الموجهة إلى ذوي الدخل المتوسط والمنخفض.
إلا أن الفئة التي يُتوقع أن تتأثر بشكل أوضح هي سوق العقارات الفاخرة، حيث ستنعكس الزيادة في تكاليف البناء مباشرة على أسعار البيع. ورغم هذا، فإن السوق السعودية ما زالت تشهد اهتماماً متنامياً بالعقارات الراقية، خاصة مع تزايد التدفقات السياحية والاستثمارية ضمن رؤية 2030.
اقرأ أيضاً: تسارع ارتفاع أسعار العقارات في السعودية
ورغم التقلبات العالمية، فإن المؤشرات العقارية في السعودية لا تزال إيجابية، إذ سجّل عام 2024 صفقات عقارية بلغت قيمتها 2.5 تريليون ريال، مدفوعة بزخم المشاريع الكبرى التي تقودها رؤية 2030، إلى جانب حوافز ضريبية مثل إعفاء المشتري الأول من ضريبة القيمة المضافة، والتي تدعم السوق بشكل مباشر.
ويُجمع المحللون على أن الاقتصاد السعودي غير النفطي، والذي يشهد نمواً ملحوظاً، يوفّر بيئة مستقرة للمستثمرين الباحثين عن بدائل أكثر أماناً من الأسواق المالية المتقلبة. وفي هذا الإطار، تبقى العقارات، إلى جانب الذهب، ملاذاً آمناً للمدخرات والاستثمارات، وهو ما يعزز مناعة هذا القطاع ضد الصدمات الخارجية.
الاعتماد على الصين
من زاوية أخرى، أشار المهندس أحمد الفقيه، الخبير العقاري، إلى أن غالبية واردات المملكة من مواد البناء تأتي من الصين، ما يعني أن الأثر المباشر للرسوم الأميركية قد لا يكون كبيراً على المشاريع العقارية السعودية. فهذا الاعتماد على بدائل خارج المنظومة الأميركية يُعَد ميزة استراتيجية تُقلل من حساسية السوق تجاه تقلبات التجارة الأميركية.
وفي المحصلة، تبدو تأثيرات الرسوم الجمركية الأميركية على القطاع العقاري السعودي محدودة ضمن السياق العام. فبينما قد ترتفع التكاليف على بعض المواد الأساسية، إلا أن المقومات المحلية، والرؤية الحكومية الطموحة، والديناميكية العالية للمطورين، كلها عوامل تجعل السوق أكثر قدرة على امتصاص الصدمات، بل وربما الاستفادة منها، عبر دفع عجلة الاستثمار نحو مزيد من التنوع والاعتماد المحلي.