في عالم تمزقه الأزمات وتتسارع فيه وتيرة النزاعات، تبرز بعض المبادرات كقناديل مضيئة في عتمة التصعيد. وفي هذا السياق، أعادت المملكة العربية السعودية تقديم نفسها كوسيط إقليمي فاعل في الساحة الدولية، عبر دورها البارز في تهدئة التوتر المتصاعد بين القوتين النوويتين في جنوب آسيا: الهند وباكستان. لم تكتفِ الرياض بإعلان موقف حيادي أو التعبير عن القلق فحسب، بل انخرطت عملياً في جهود دبلوماسية محمومة أثمرت عن وقف لإطلاق النار بين الطرفين، وسط إشادة دولية بدورها المتوازن والمؤثر.
ترحيب بوقف إطلاق النار
في 10 أيار/مايو 2025، أصدرت وزارة الخارجية السعودية بياناً ترحيبياً باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان، معربة عن أملها في أن يكون هذا الاتفاق نقطة انطلاق نحو السلام والأمن في منطقة طالما عانت من التصعيد المزمن، خصوصاً في كشمير. وعبّر البيان عن دعم السعودية للحوار والحلول السلمية، ورفضها للخطاب التصعيدي أو المحرض، في تأكيد متجدد على التزامها بمبادئ حسن الجوار التي دعت إليها مراراً.
ترحيب المملكة لم يكن مجرد خطوة بروتوكولية؛ بل حمل في طياته دعماً واضحاً لتغليب الحكمة وضبط النفس، واعترافاً ضمنياً بأن السلام الإقليمي لا يتحقق إلا عبر أدوات الحوار، وليس عبر منصات إطلاق الصواريخ.
تحرّك دبلوماسي فعّال

لم يكن البيان السعودي سوى حلقة من سلسلة تحركات دبلوماسية فاعلة تجلّت في اتصالات هاتفية وزيارات مباشرة لمسؤولين سعوديين إلى نيودلهي وإسلام آباد. فقد أجرى وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، اتصالين بنظيريه الهندي، الدكتور سوبراهمانيام جايشانكار Dr. Subrahmanyam Jaishankar، والباكستاني إسحاق دار Ishaq Dar، عبّر خلالهما عن حرص المملكة على أمن واستقرار المنطقة، مذكّراً بعلاقات السعودية الوثيقة مع الطرفين، في تأكيد على توازن الرياض في تعاطيها مع القضايا الإقليمية.
ولم تكتفِ المملكة بالمستوى الوزاري، بل دفعت بوزير الدولة للشؤون الخارجية، عادل الجبير، إلى الميدان. ففي زيارة مزدوجة يومي 8 و9 مايو، تنقّل الجبير بين العاصمتين، حاملاً معه رسالة سعودية واضحة مفادها أن الرياض تسعى ليس فقط لوقف التصعيد، بل لترسيخ نهج دبلوماسي طويل الأمد يُعزز الاستقرار.
وقد لقيت هذه الجهود تقديراً من مختلف الجهات، لا سيما من رابطة العالم الإسلامي، التي نوّهت بزيارة الجبير، مشيدة بالدور السعودي المتّزن، وداعية الطرفين إلى التجاوب مع المساعي الحميدة للمملكة.
جهود السعودية
لم تأتِ هذه التحركات في فراغ سياسي، بل جاءت في لحظة فارقة شهدت تصعيداً عسكرياً هو الأعنف منذ أكثر من عقدين، بعد أن تبادلت الهند وباكستان القصف المدفعي والصاروخي عقب اتهامات متبادلة بشأن هجمات في كشمير. وبينما أُطلقت الطائرات المسيّرة، وتبادلت القوات إطلاق النار عبر الحدود، ارتفع منسوب القلق الدولي من انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة.
هنا، اختارت السعودية أن تتحرك، لا أن تكتفي بمراقبة المشهد. فبتوجيه من القيادة السعودية، وضمن رؤية ترتكز على تحويل المملكة إلى لاعب إقليمي مؤثر، قامت الرياض بدور الوسيط الذي يجمع بين الحياد والمبادرة. وتستند هذه الدبلوماسية النشطة إلى مكانة المملكة في العالمين الإسلامي والدولي، وعلاقاتها الجيدة مع كل من الهند وباكستان، ما جعل منها طرفاً مقبولاً لدى الجانبين.
وقد عزّزت السعودية تحرّكها بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، مثل تركيا والولايات المتحدة. حيث أعلن وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، أن الاتفاق جاء ثمرة لمجهود مشترك ضمّ الرياض وأنقرة، بينما نوّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عبر منصة «تروث سوشيال»، بدور بلاده في تسهيل التهدئة.
عوامل القوة الناعمة: لماذا السعودية؟
اختيار الهند وباكستان للمملكة كوسيط لم يكن محض مصادفة. فإلى جانب وزنها الديني والاقتصادي، تمتلك السعودية رصيداً دبلوماسياً راكمته عبر سنوات من التوسط في النزاعات، من اليمن إلى السودان، ومن لبنان إلى العراق. ومع اعتمادها المتزايد على ما يُعرف بـ«القوة الناعمة»، تسعى الرياض إلى لعب أدوار بناءة تضعها في مصاف الدول الكبرى المؤثرة، لا بوصفها قوى استعمارية جديدة، بل كشريك في صياغة السلام.
في المقابل، تكمن فاعلية هذا الدور في كونه غير قائم على التدخل العسكري أو الدعم لطرف على حساب آخر، بل على الحياد والاتصال النشط والتوازن في العلاقات، ما يجعل الأطراف المتنازعة أكثر انفتاحاً على مقترحات السعودية وتوصياتها.
ختاماً، تُظهر التجربة السعودية في الأزمة الأخيرة بين الهند وباكستان أن السياسة الخارجية لا تقتصر على إصدار بيانات القلق والتنديد، بل تقوم على الفعل الدبلوماسي الحقيقي والمبادرة المدروسة. وبينما تتجه الأنظار إلى منطقة جنوب آسيا كواحدة من أخطر مناطق التوتر في العالم، تؤكد الرياض مرة أخرى أنها قادرة على التحوّل إلى صانعة سلام، لا فقط في جوارها العربي، بل في محيطها الآسيوي الأوسع.