تقع قرية “القابل” في قلب منطقة نجران، جنوب غرب المملكة العربية السعودية، وتعد إحدى أعرق القرى التراثية في المملكة، إذ تمتزج فيها الأصالة بالتاريخ العريق والثقافة الغنية.
وتتميز القرية ببيوتها الطينية القديمة ذات التصميم المعماري الفريد، وبساتين النخيل المعمرة التي تجسد الهوية التاريخية والتراث العمراني للمنطقة، كما تروي ملامحها فصولًا من حياة الأجداد الذين شيدوا حضارتهم حول شرايين الحياة المتمثلة في الآبار القديمة، مما يجعل “القابل” شاهدًا حيًا على عبقرية المكان وعمق الانتماء.
وتعرف البيوت الطينية الشامخة في هذه القرية باسم “الدروب”، ويعود بناء بعضها إلى أكثر من 350 عامًا، ما يجعلها انعكاسًا أصيلًا للطراز المعماري التقليدي للمنطقة، كما تحيط بها الأراضي الزراعية الخضراء، مما يضفي على المكان جمالًا طبيعيًا يعزز طابعه التراثي.
اقرأ أيضاً: المقاهي الشعبية في الدرعية.. حيث يلتقي التراث الأصيل بالفن والإبداع
الآبار القديمة شرايين الحياة التي شكلت قرية القابل
وتتمركز هذه البيوت حول الآبار القديمة التي كانت منتشرة في القرية، ممتدة من حدودها الشرقية المحاذية لمزارع “الحصين”، وصولًا إلى “قرية الجربة” غربًا، ومن موقع “الأخدود الأثري” جنوبًا، حتى ضفاف “وادي نجران” شمالًا.
ولا تزال العديد من هذه الآبار تحمل أسماء تاريخية تعرف المواقع المختلفة في القرية حتى اليوم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: بئر “أم الزوايا”، و”بهجة”، و”الصروف”، و”رقيبة”، و”الزجاج”، و”سعيدة”.
كما يتداول السكان أسماء آبار أخرى مثل “اليتيمة”، و”نعمان”، و”كعب”، و”مخضة”، و”عتيق”، تأكيدًا على الدور الحيوي الذي لعبته المياه في نشأة القرية وتطورها عبر التاريخ، وتحيط بهذه الآبار أشجار النخيل المعمرة، مما يجعلها جزءًا أصيلًا من التراث الثقافي والطبيعي للمنطقة.
وتضم القرية أكثر من 200 بيت طيني تتنوع في ارتفاعاتها وتصاميمها، بما يعكس الحقب الزمنية المختلفة التي شهدت بناءها، ويبرز دقة الفن المعماري القديم وجماله، مع تفاصيل تميز كل بيت وتؤكد الهوية العمرانية الفريدة للمنطقة.
وتحتضن القابل أنماطًا معمارية طينية شهيرة، مثل “المربَّع” و”المشولق” و”المقدَّم”، التي تتنوع في أشكالها الهندسية وأحجامها، مما يعكس ثراء الطراز العمراني التقليدي للمنطقة.
وتحافظ هذه البيوت الشامخة، بقبابها التاريخية، على رونقها رغم مرور الزمن، خاصة تلك التي تتربع على ضفاف وادي نجران، لتؤكد عمق الإرث الثقافي الذي تزخر به المنطقة والمملكة.
ومن بين القرى التراثية في القابل، تبرز قرية “اللِّجام” كإحدى أبرز 34 قرية تراثية في المنطقة، وتتميز بقصورها العريقة، التي يعود تاريخ بعضها إلى مئات السنين، وتضم أكثر من 20 بيتًا طينيًا، مما يرسخ مكانتها ضمن النسيج التاريخي والمعماري للمنطقة.
اقرأ أيضاً: مسجد القبلي: التراث المعماري النجدي يسطع من جديد!
كنوز القابل الخفية: من الأسواق القديمة إلى المزارع
لا تقتصر كنوز القابل على بيوتها الطينية وآبارها القديمة فحسب، بل تمتد لتشمل معالم أخرى تجسد طبيعة الحياة التي كانت سائدة في المنطقة.
وتشير الروايات إلى حدود “سوق الخميس القديم”، حيث كان الزوار يجدون فيه المنتجات المحلية، مثل السلال اليدوية، والفخار، والمأكولات التقليدية كـ “المرضوفة” و”الحميسة”.
ويعد السوق فرصة رائعة للتعرف على الثقافة المحلية، إلى جانب الآبار والقرى المحيطة به، مثل “الجديدة” و”بيحان”، مما يعكس الأهمية التجارية والاجتماعية التي كانت تتمتع بها القابل ومحيطها.
وتشكل المزارع القديمة، ولا سيما بساتين النخيل التي تعانق البيوت الطينية، لوحة طبيعية وجمالية فريدة تميز قرى حي القابل، وتضاف إليها حقول القمح المنتشرة، لترسم معًا هوية بصرية مميزة للمكان.
وتشتهر القابل بإنتاجها الزراعي، خاصة التمور الفاخرة والذرة، حيث تشكل المساحات الزراعية الشاسعة مكانًا مثاليًا للاستمتاع بالطبيعة والتقاط الصور التذكارية وسط المروج الخضراء.
جهود الحفاظ على إرث “الدروب”
تبذل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني جهودًا كبيرة، بالتعاون مع شركائها الاستراتيجيين في القطاعين الحكومي والخاص، للحفاظ على التراث العمراني الوطني في مختلف مناطق المملكة، ومنها منطقة نجران التي تحتضن قرية “القابل”، حيث تنتشر البيوت الطينية القديمة.
وتعمل الهيئة على التواصل مع أصحاب هذه البيوت لإعادة تأهيلها والاستفادة منها في إبراز الهوية الثقافية والتاريخية للمنطقة.
إلى جانب ذلك، يحرص الأهالي على الحفاظ على بيوتهم الطينية وترميمها، حيث، ورغم التطور العمراني والاقتصادي الذي شهدته المملكة، يختار العديد منهم البقاء بجوار هذه “الدروب” أو العناية بها دون هدمها، إيمانًا بقيمتها التاريخية العميقة وما تمثله من ارتباط بالجذور والهوية.
