رحلة بريطانية ملهمة: من نهر التايمز إلى عرفات… الله وكيل البحر!

نتحدث في هذا المقال عن رحلة بريطانية ملهمة؛ عن ستة شبّان بريطانيين خرجوا بمغامرة روحية تتحدى المألوف. لم يكن في نيتهم فقط بلوغ مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، بل كان هدفهم أن يصنعوا من رحلتهم رسالة، ومن البحر درباً للتأمل والعمل الصالح.. انطلقوا من ضفاف نهر التايمز في لندن، يقودهم قارب شراعي صغير لا يتجاوز طوله 33 قدماً، متوجهين جنوباً نحو البحر الأحمر، حاملين إيمانهم في قلوبهم، وخريطةً روحية على متن قارب، وصرخةً تقول: لا حدود بين الإيمان والمغامرة.

خلال 59 يوماً فقط، صهروا أرواحهم في مزيج من البحر والعقيدة، من التيه والثقة، من الألم والرجاء. كان البحر عدوّهم حيناً، ورفيقهم حيناً آخر، لكنه في كل الأحوال، كان جزءاً من تلك الصلاة الطويلة التي بدأت من لندن… وستنتهي في عرفات.

رحلة بريطانية ملهمة: حكاية تبدأ من الماء

بقارب صغير، وقلوب كبيرة. هكذا بدأت رحلة فريق «Hajj Sail» الذي يتألف من ستة متطوعين مسلمين من بريطانيا. لم تكن الفكرة مجرد خوض مغامرة بحرية، بل كانت محاولة لربط العبادات بالعمل الخيري، واستعادة مفهوم الحج كرحلة روحية تبدأ من لحظة اتخاذ القرار، لا من لحظة الوصول إلى مكة.

مرّت الرحلة بمحطات عديدة، من بريطانيا إلى فرنسا، ثم كورسيكا وسردينيا وصقلية، ومنها إلى إيطاليا واليونان، قبل أن يعبر الفريق قناة السويس في مصر، ويشق طريقه عبر البحر الأحمر إلى جدة. كانت كل محطة تحمل معنى، وكل ميناء يشهد على عزمهم.

يوميات في عرض البحر: ضوء الإيمان وسط الظلام

الرحلة لم تكن سهلة، ولم تخلُ من المواقف العصيبة. في أحد الأيام، تعطّل الدينامو المسؤول عن توليد الكهرباء في القارب، ما أدى إلى فقدان الاتصال تماماً بعد تعطل جهاز الراديو البحري. عندها، وجد الفريق أنفسهم في قلب البحر دون كهرباء أو وسيلة تواصل، ومع حرارة خانقة وحركة مستمرة تشبه العيش داخل مجفف ملابس، كما وصفها أحدهم.

لم يكن أمامهم سوى الصبر والدعاء، والتناوب على إصلاح الأعطال، إلى أن وصلت قوارب الإنقاذ بعد ساعات من الانتظار والترقّب. كانت تلك اللحظات اختباراً حقيقياً للنية، وللقوة الداخلية التي دفعتهم للاستمرار رغم كل شيء.

قناة السويس: عبور الروح قبل عبور الجغرافيا

من بين أبرز المحطات في الرحلة كانت قناة السويس. ففي مدينة الإسماعيلية، استُقبل الفريق بحرارة من السكان المحليين، وخضع القارب لفحوصات تقنية أثبتت سلامة المحرّك ونقاء الوقود. دوّن الفريق انطباعاته عن مصر، وكتب أحدهم: «رأينا مسجداً وكنيسة يتجاوران، وكأن مصر تهمس لنا: في التنوع رحمة». وكان ذلك التوقف فرصة لإعادة ترتيب الأمور الفنية في القارب، واستعادة بعض الهدوء قبل استئناف الجزء الأكثر صعوبة من الرحلة.

وحين اقترب الفريق من مياه البحر الأحمر، بدأت المرحلة الأصعب. واجهوا رياحاً وصلت سرعتها إلى 40 عقدة، وأمواجاً بارتفاع سبعة أقدام. كانت المياه تعلو وتهبط كأنها تختبر صدقهم، بينما كل صوت صادر من هيكل القارب كان يذكّرهم بأن لا أحد في البحر سواهم… وسوى الله.

ورغم الخطر، التزم الفريق بروح الاعتماد على الذات، وتناوبوا على قيادة القارب، واصطادوا الأسماك لتأمين غذائهم، متقشفين في العيش، وكأنهم يستعيدون الجوهر الحقيقي للحج: التجرد، والتقشف، واليقين.

ذي الحجة على الموج: بين الأضحية والصلاة

مع دخول شهر ذي الحجة، لم ينس الفريق أن يُعلن ذلك لمتابعيه على «إنستغرام»، حيث كتبوا منشوراً يذكّر بأهمية الأضحية، ويحثّ على نيتها. كانوا يعيشون بين السماء والماء، لكنهم لم ينسوا الأرض، ولا من ينتظرونهم في مكة.

قالوا: «سبحان الله، كأن التوقيت جاء ليؤكد أن الأضحية ليست فقط عادة، بل وعد… ووصلنا إلى وقت الوفاء».

جدة ترحّب: ضيافة تنسي المشقة

عند وصول الفريق إلى نادي جدة لليخوت، كان في استقبالهم أعضاء من الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية، بالإضافة إلى مسؤولي نادي اليخوت، وممثلين عن شركة «BWA Yachting». وكان الاستقبال حافلاً، والضيافة سعودية بامتياز.

وقال عبد الواحد دونالد ستيوارت وايت، أحد قادة الرحلة: «واجهنا شمساً حارقة وعواصف لا ترحم، لكن النية الخالصة هي التي دفعتنا للاستمرار. أردنا أن نلهم الشباب بأن الحج ليس مقصوراً على تذكرة طائرة، بل هو تجربة يمكن أن تبدأ من أي مكان… حتى من قارب صغير». وأضاف: «الكرم الذي لقيناه في جدة أنسانا كل المشقة… لكننا لن ننسى أبداً 59 يوماً من الدعاء، والكفاح، واليقين».

إلى مكة: الختام ليس نهاية

بعد أن حط القارب رحاله في جدة، يستعد الفريق حالياً لإكمال رحلته براً إلى مكة المكرمة، حيث سينضمون إلى جموع الحجاج لأداء المناسك. لكنّ رحلتهم بدأت قبل الجميع… من قلب لندن، ومن عمق البحر، ومن إيمان لا يعرف الحدود. اختار هؤلاء الستة أن يتأنّوا، أن يعبروا البحار لا الحدود فقط، وأن يجعلوا من كل شراع منارة، ومن كل موجة دعاء. لقد أعادوا تعريف فريضة الحج، لا كمحطة زمنية، بل كرحلة عمرية. من نهر التايمز إلى عرفات، قالوا لنا دون خطب طويلة: الله وكيل البحر… والله وكيل القلوب.

اقرأ أيضاً: أسرار زُبالا الأثرية: القرية السعودية التي مرّ بها الحجيج وخلّدتها كتب التاريخ