بعدما شهدته بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 من نجاح غير مسبوق في قطر، على مستوى التنظيم والاستضافة ومعايير جودة المنشآت والبنية التحتية الرياضية، انفتحت شهية الدول العربية والخليجية لتكرار هذه التجربة مجدداً بعد أن تغيرت نظرة العالم أجمع إلى منطقة الشرق الأوسط، من حيث قدرتها على تنظيم وإدارة مثل هذه التجمعات الرياضية الكبرى.
كتب: محسن حسن
عروض وتجارب
كانت المملكة العربية السعودية قد فكرت في تقديم عرض مشترك مع اليونان ومصر لتنظيم كأس العالم 2030، غير أنها تراجعت عن ذلك عندما وجدت أن مثل هذا العرض لا يلبي طموحاتها الهادفة إلى تحقيق أهداف كبرى تتماشى مع استراتيجيتها للتنمية والتحول الاقتصادي والاستثماري الشامل، ومن ثم اتخذت القيادة السعودية قرارها بتقديم عرض آخر منفرد لتنظيم البطولة في نسختها للعام 2034، حيث تم التقدم للفيفا بالمحتوى الأولي للعرض يوم الرابع من أكتوبر 2023، لتنجح المملكة مؤخراً في الحصول على حق تنظيم البطولة، بعد انسحاب استراليا، وانفراد العرض السعودي بالمنافسة، وإعلان رئيس الاتحاد الدولي (جياني أنفينتينو) أن السعودية هي المنظم الرسمي لنسخة 2034 من كأس العالم لكرة القدم.
وفي الوقت الراهن، يستعد الجانب السعودي لتقديم الملف النهائي والمكتمل لتنظيم البطولة، وهو ما ستشهده غالباً، الجلسة الرابعة والسبعين للجمعية العمومية للاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) والمقرر انعقادها في السابع عشر من مايو القادم 2024 في العاصمة التايلاندية(بانكوك)، حيث ستستكمل المملكة باقي الوثائق والتفاصيل والملامح والترتيبات الخاصة بالتنظيم، إلى جانب ما تم تقديمه سابقاً عندما قدم الاتحاد السعودي لكرة القدم خلال شهر مارس الماضي من العام الحالي، الملامح العامة للهوية الرياضية للبطولة، وفي المقدمة شعار المنافسات الذي حمل عنوان( معاً.. ننمو)، وكذلك الرؤية البصرية والموقع الإلكتروني الرسمي للحدث المرجح انطلاقه شتاء 2034، بمشاركة 48 فريقاً؛ حيث من المتوقع أن تقوم الاتحادات الـــ 211 الأعضاء في (FIFA) بالتصويت النهائي لصالح الملف السعودي، وبعد هذا التصويت ستحصل وسائل الإعلام العالمية على الضوء الأخضر لتقديم المملكة باعتبارها المنظم الرسمي للبطولة بعد عقد قادم.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن قطاع الأنشطة الرياضية في المملكة يستهدف الحصول على أية فعاليات رياضية كبرى بخلاف البطولة الأكبر التي هي كأس العالم لكرة القدم، وذلك بهدف الوصول إلى أعلى مستويات الاحترافية التنظيمية قبل حلول الموعد المحدد لتلك البطولة عام 2034، ومن ثم، فقد رحبت البلاد بتنظيم بطولة كأس العالم للأندية لكرة القدم، والتي حققت نجاحاً كبيراً اطمأنت من خلاله دوائر صنع القرار إلى تنامي القدرة التنظيمية للمنافسات الرياضية الدولية على أرض المملكة، بعد أن استضافت ملاعب البطولة أكثر من 100 جنسية من الجماهير المشجعة لأنديتها في البطولة المتطورة، والتي احتضنتها مدينة جدة خلال العام المنصرم 2023، وهي القدرة التي ستظهر أكثر وأكثر خلال فعاليات رياضية كبرى قادمة، مثل كأس آسيا لكرة القدم 2027 والتي فازت بتنظيمها السعودية وتقام في أربع مدن هي (الرياض، جدة، الخبر، الدمام)، وفقاً لما أعلنه الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، بالإضافة لدورة الألعاب الشتوية الآسيوية التاسعة للعام 2029، والتي فازت السعودية أيضاً بتنظيمها على ملاعبها وبين جماهيرها في أحياء(تروجينا نيوم) الجبلية الواعدة، وفقاً لما أعلنه (المجلس الأوليمبي الآسيوي) خلال جمعيته العمومية الحادية والأربعين، والمنعقدة في كمبوديا في الرابع من أكتوبر عام 2022.
اقرأ أيضًا: المؤتمر الدولي الخامس لعلوم الرياضة والنشاط البدني
الشعار والتنمية
من خلال التصريحات الرسمية المتداولة للمسؤولين الرياضيين في المملكة، فإن شعار (معاً ننمو) الذي اعتمدته اللجنة المخولة بتقديم ملف تنظيم بطولة كأس العالم 2034، يحمل إشارات واضحة إلى التوجهات والتطلعات والطموحات السعودية الجديدة، والرامية إلى إبراز الانفتاح الوطني على العالم من خلال مشاركته لغته الشعبية الأكثر انتشاراً وجماهيرية، ألا وهي لغة الرياضة بشتى أنماطها وأنشطتها ومنافساتها، وخاصة منافسات كرة القدم التي تستحوذ على اهتمامات الغالبية العظمى من جماهير الكوكب، ومن ثم، فقد كان اهتمام القيادة السعودية بالحصول على حق تنظيم كأس العام لكرة القدم، بمثابة الاعتراف المؤكد بمنزلة المنافسات الرياضية ودورها كقوة ناعمة معبرة عن هوية الدول وثقافاتها وتراثها ورؤاها الخاصة والعامة تجاه الأمم والشعوب القريبة والبعيدة، وهو ما وجدت المملكة في ظله قناعات متينة بجدوى الانفتاح الرياضي ضمن سياق تنموي جامع، يهدف إلى خدمة الاستراتيجية الوطنية للتنمية والإصلاح والتنويع الاقتصادي.
وفي إطار حرصها على التعريف بالواقع السعودي المتطور، ودعوة كافة الأنماط البشرية للتعرف عليه والاحتكاكا به عن قرب، تبنت رؤية المملكة 2030، وبإشراف مباشر من صندوق الاستثمارات السعودي، خططاً واعدة للنهوض بالقطاع الرياضي وتنويع موارده واستثماراته من خلال توطين مختلف الرياضات البارزة وتأسيس البنى التحتية اللازمة لكل منافسة رياضية وفق أحدث معايير الجودة والتصميم والإنشاء، بداية بملاعب كرة القدم ومضامير الفورمولا واحد، إلى حلبات الملاكمة وملاعب الجولف الواسعة والمفتوحة، وذلك كضرورة منطقية من ضرورات التوظيف الأمثل للأنشطة الرياضية في تعزيز العلاقات الدولية.
ويعد التطور الكبير الحادث في تنويع الأنشطة الرياضية السعودية، من بين المؤشرات والدلائل الواضحة على مستقبل الواقع الرياضي السعودي خلال العشر سنوات القادمة، والتي ستنتهي بالبدء في استضافة الحدث الأبرز وهو بطولة كأس العالم لكرة القدم 2034؛ إذ أن التأمل الدقيق لهذا الواقع الرياضي، يؤكد لكل ذي عينين مدى ما تشهده الفعاليات الرياضية على أرض المملكة من تحولات مثيرة ودراماتيكية سريعة ونوعية نحو التحديث والتطوير والاتساع، ولعل تطور الرياضات النسائية يشكل علامة بارزة على هذه التحولات؛ فبعد أن كانت الرياضات النسائية متوارية عن الأنظار تقريباً على كافة المستويات، إذا بها تشهد طفرة نوعية ضمن قطاع الرياضة السعودي، تحولت خلالها من نطاق الهواية إلى فضاء المنافسة الدولية والاحتراف، كما أن تسارع وتيرة التطوير الحادث في البنية التحتية الرياضية في المملكة، منح الملف السعودي المقدم لتنظيم كأس العالم لكرة القدم، ثقلاً كبيراً لدى الاتحاد الدولي، ورجح كفة السعودية للفوز بالتنظيم.
وبحسب الاهتمامات السعودية الكبيرة بحدث تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2034، فإن المتوقع لهذا الحدث، أن يحمل نمطين من الإدارة والتنظيم، النمط الأول دعائي وترويجي؛ حيث ستحرص اللجنة المنظمة للبطولة على اعتماد أعلى مستويات الإبهار البصري والإعلامي خلال سريان المنافسات وتصويرها ونقلها إلى العالم عبر وسائل المرئي والمسموع والمكتوب، وبالطبع ستمتلك المدن والمناطق السعودية المختلفة التي ستشهد المباريات، خططاً طموحة للترويج السياحي المصاحب للأحداث والمنافسات، بحيث سيكون الحدث بشكله الإجمالي مؤدياً إلى التعريف العميق بأرض المملكة حضارة وتراثاً وتاريخاً، في حين سيكون النمط الثاني المعتمد إدارياً من قبل اللجنة المنظمة لهذا الحدث، استثمارياً وتجارياً؛ حيث ستشهد أيام البطولة تركيزاً سعودياً على توظيف الإقبال الجماهيري توظيفاً شاملاً من حيث تحريك القطاعات الاقتصادية الوطنية وخاصة قطاع الخدمات والقطاع السياحي وقطاع الطيران المدني إلى جانب قطاعات أخرى عديدة، إضافة للقيام بتوظيف الفعاليات والاستضافات النوعية المختلفة على هامش البطولة، في عقد صفقات استثمارية وتجارية على نطاق واسع من الضخامة والاحترافية، ما يعني أن هذا الحدث سيتم من خلاله استقطاب كافة أنماط العوائد الاقتصادية والاستثمارية والتجارية المتاحة ضمن نطاق فعالياته وهوامشه العامة والخاصة.
اقرأ أيضًا: كيف احتفل نجوم الرياضة العالمية بيوم التأسيس السعودي؟
هوية فاحصة
ومن الاعتبارات الجيدة التي تأتي في صالح التنظيم السعودي لنهائيات وبطولة كأس العالم لكرة القدم 2034، تعدد أنماط التنظيم السابقة عليه؛ بمعنى أن مباشرة المملكة وقربها من حدث تنظيم بطولة كأس العالم في قطر 2022، إلى جانب وجود بطولتين سابقتين أيضاً، هما بطولة كأس العالم 2026 المقرر إقامتها مشاركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، وبطولة 2030 المقرر إقامتها (غالباً) مشاركة بين المغرب وإسبانيا والبرتغال، هذه التجارب التنظيمية، حتماً ستستحضرها المملكة وتفيد بها وبتفاصيلها السلبية والإيجابية معاً عند الشروع في إطلاق تنظيمها لحدث 2034، ومن المتوقع في ظل استحضار الدروس المستفادة من هذه التجارب، أن تحرص المملكة على اعتماد مواعيد مناسبة من حيث أجواء الطقس لإقامة مباريات البطولة، ومن ثم، فقد تطرأ تعديلات ما، قد يترتب عليها إرجاء الفعاليات إلى فصل الشتاء بدلاً من فصل الصيف، تجنباً للأجواء الحارة التي تشهدها مناطق المملكة، ولكن بشكل إجمالي، ستعمل الرياض خلال العقد القادم على تأسيس هوية رياضية وطنية كاملة وشاملة، تضع المملكة في مصاف الدول الأكثر زخماً من حيث ممارسة الأنشطة والفعاليات الرياضية العالمية والدولية، وهو ما سيجعل من كأس العالم 2034، نقلة نوعية جديدة في تاريخ الرياضة السعودية، ستحصد من خلالها المملكة مردوداً عالمياً غير مسبوق على كافة الصعد والمستويات الإيجابية.
و هذه الهوية الرياضية التي ستحرص المملكة علىى تكوين ملامحها قبل الانطلاقة الواعدة لتنظيم فعاليات 2034، خطت إليها استراتيجية التحديث السعودية منذ سنوات، خطوات جدية عبر إنجازات حصرية عديدة في المجال الرياضي؛ فقد وضعت رؤية 2030 الطموحة منذ انطلاقها عام 2016، مسارات تنفيذية متدرجة ومستمرة لتطوير البنية التحتية والمنشآت والمرافق الرياضية، للتمهيد لتفعيل خطط الاستثمار الرياضي المتضمنة في سياق الرؤية، ومن ثم، فقد شهد العام 2022 قيام صندوق الاستثمارات العامة السعودي بتخصيص ما يزيد على 2.2 مليار دولار لتطوير كرة القدم، كما شهد عام 2023، قيام الصندوق ذاته بالاستحواذ على أسهم فاعلة ومهيمنة على إدارة أربعة من الأندية السعودية الكبرى في الدوري السعودي لمحترفي كرة القدم، وهي أندية الهلال والاتحاد والنصر والأهلي، وهو ما مهد لاحقاً لاستقدام كبار اللاعبين الدوليين إلى الملاعب السعودية، وعلى رأسهم (كريستيانو رونالدو)، في صفقات صخمة تجاوزت المليار دولار، وهي الصفقات التي شكلت البوابة الكبرى لانفتاح رياضي سعودي ذي وجهة استثمارية، قوامه الأساسي الاستحواذ على أندية رياضية كبرى خارج المملكة، مثل نادي (نيوكاسل يونايتد) الإنجليزي، والذي استحوذ عليه صندوق الاستثمارات العامة في أكتوبر 2021 في صفقة زادت قيمتها على 410 مليون دولار.
اقرأ أيضًا: أرقام وأهداف استثمار السعودية في قطاع الرياضة
مكتسبات وأخطاء
وفي الوقت الراهن، نستطيع القول بأن المؤسسات المسؤولة عن إدارة الأنشطة الرياضية في المملكة العربية السعودية، باتت تعي جيداً طبيعة المسار الواجب اتباعه للحفاظ على المكتسبات والإنجازات الرياضية المتحققة، والمضي بها قدماً نحو المزيد من الاحترافية والتوطين والاستدامة؛ فالأندية السعودية الآن تمتلك خدمات أكثر من تسعين لاعباً من كبار اللاعبين العالميين، وبالتالي فإن أعين جماهير العالم تتجه دوماً إلى متابعة الملاعب السعودية، وتكفي الإشارة هنا إلى أن انتقال رونالدو جلب لنادي النصر السعودي أكثر من خمسة ملايين متابع على منصة انستغرام وحدها، وهو مؤشر ومكتسب يجب توظيفه واستغلاله بكل تأكيد، خاصة مع كثرة اللاعبين المحترفين في الدوري السعودي، كما أن انتصار المنتخب السعودي على (أرجنتين ميسي) في النسخة الأخيرة من كأس العالم في قطر 2022، منح رياضة كرة القدم السعودية زخماً كبيراً في إمكانية المنافسة على الألقاب القارية والدولية، ليس في كرة القدم وحدها وإنما في كافة المنافسات والألعاب الأخرى كذلك، وذلك بالنظر إلى دقة الاستراتيجيات الاستثمارية وضخامتها في القطاع الرياضي، وهي الاستثمارات التي اعتمدت منهج المأسسة الرياضية وتحويل أنشطة الهواة إلى أنشطة احترافية تهيمن على إدارتها شركات متخصصة وقادرة على الدعم والتعزيز والمنافسة.
وعلى مستوى البنية التحتية لملاعب كرة القدم الموضوعة ضمن خطة الإعداد لمنافسات كأس العالم 2034 وباقي الفعاليات الأسبق، بدأت بالفعل مسيرة التحديث والتطوير لكافة الملاعب السعودية، وعلى رأسها استاد الملك فهد الدولي، والذي سيتم تحديثه ليواكب معايير الاتحاد الدولي من حيث السعة والتقنيات، وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الملاعب الأخرى كملعب القدية، و استاد مشروع جدة المركزي، واستاد الأمير فيصل بن فهد، و ملعب مدينة الملك عبدالله الرياضية، وملاعب أخرى، وقد تم تخصيص استثمارات بقيمة تزيد على عشرة مليارات ريال سعودي للبدء في عمليات التطوير، وهي استثمارات قابلة للزيادة والتوسع، خاصة مع الأخذ في الاعتبار جهود التطوير الموازية الأخرى بخلاف تحديث وإنشاء الملاعب، والمتعلقة برفع كفاءة البنية التحتية للطرق والمطارات وشبكات النقل وخطوط الاتصال، وهو ما تحرص المملكة على إنجازه وفق أحدث المعايير الدولية، ووفق رغبة القيادة السعودية في تحويل البلاد إلى مركز عالمي مستدام للممارسات الرياضية وأنشطة السياحة والترفيه.
وختاماً، لابد من لفت أنظار القيادة السعودية ممثلة في الاتحاد السعودي لكرة القدم، إلى أهمية عدم الوقوع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه قطر قبل ذلك، وهو عدم استغلال الفترة البينية المقررة منذ إعلان الأحقية في تنظيم البطولة وحتى انطلاقها فعلياً، في إعداد منتخب قوي وقادر على المنافسة الفعلية ضمن سياق الفرق المشاركة في كأس العالم؛ وعلى سبيل المثال كانت قطر تمتلك فعلياً فرصة بناء منتخب وطني جديد على مدار 12 عاماً قبل انطلاق المنافسة في 2022، لكنها لم تفعل، واكتفت بالمنتخب التقليدي لها والذي لم يقدم شيئاً سوى شرف المشاركة، والآن على المملكة استغلال العشر سنوات القادمة من الآن، لبناء منتخب شاب وواعد وجديد ليشارك بقوة واحترافية في نسخة 2034، وهو ما سيساهم في تعزيز الهوية الكروية للمملكة وفي وضع منتخب كرة القدم السعودي مستقبلاً ضمن المنتخبات الدولية القادرة على انتزاع مراكز متقدمة في نهائيات كأس العالم. وكمقترح خاص، أرى ضرورة تكوين منتخب سعودي جديد، وإشراكه رسمياً في الدوري السعودي كمنافس شرفي مستقل حتى العام 2033، وبعدها يمكن انفصاله للدخول في فترة إعداد قوية ومحكمة.
اقرأ أيضًا: كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2024.. لحظة محورية لتطور الصناعة وانطلاقها