في سباقها ضد الزمن لتحقيق أهداف رؤية 2030، تحول السعودية أنظارها نحو بناء مركزٍ مالي عالمي، في محاولةٍ لتنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط، فبعد عقود من الاعتماد الكلي على “الذهب الأسود”، تراهن المملكة اليوم على جذب الاستثمارات الدولية وإعادة هيكلة اقتصادها عبر تطوير القطاع المالي، الذي يعتبر حجر الزاوية في استراتيجيتها للتحول الاقتصادي.
لكن هذا الطموح يصطدم بتحدياتٍ ضخمة، مثل المنافسة مع مراكز مالية راسخة (دبي، سنغافورة)، وضرورة تحديث الأنظمة القانونية والمالية، وبناء ثقة المستثمرين الأجانب في بيئةٍ تتسم بالتقلبات الجيوسياسية، فهل تنجح السعودية في ترسيخ مكانتها كلاعبٍ مالي عالمي؟
من النفط إلى المال: السعودية تعيد تعريف دورها
تعد السعودية لاعبًا اقتصاديًا قويًا في المنطقة، لكن ارتباطها التاريخي بالنفط عرضها لهزاتٍ متتالية جراء تقلبات الأسعار العالمية، ومع إطلاق رؤية 2030، تحولت الأنظار نحو بناء اقتصاد متنوع، يحول القطاع المالي إلى محركٍ رئيسي للنمو، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على “الذهب الأسود”.
فالمركز المالي العالمي، في جوهره، نظام يدمج بين المؤسسات المالية الدولية والأسواق الرأسمالية، عبر بنية تحتية متطورة وتشريعات مرنة تُذلل حركة رؤوس الأموال عبر الحدود.
وهنا، تسعى السعودية لاحتلال موقع الصدارة، مستغلةً موقعها الجغرافي الاستراتيجي كجسرٍ بين الشرق والغرب، ومواردها المالية الضخمة التي تمكنها من تمويل هذا التحول الجذري.
لماذا تراهن السعودية على القطاع المالي؟
الدافع الرئيسي هو تحرير الاقتصاد من قيود النفط، الذي لا يزال يشكل أكثر من 60% من إيرادات الدولة، كما تهدف المملكة إلى استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 100 مليار دولار سنويًا، وخلق ملايين الفرص الوظيفية للسعوديين، لا سيما في قطاعات الخدمات المالية المتطورة، مثل التكنولوجيا المالية والصيرفة الإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك، تطمح الرياض إلى منافسة دبي والإمارات كمركز مالي إقليمي، خاصةً مع استضافة فعاليات عالمية مثل قمة العشرين، التي عززت من ظهورها على الساحة الدولية.
اقرأ ايضاً: كيف نجحت السعودية بزيادة نموها الاقتصادي بعيداً عن الأنشطة النفطية؟
مشاريع عملاقة.. ولكن هل تكفي؟
بدأت السعودية بتنفيذ مشاريع عملاقة لتعزيز بنيتها التحتية المالية، ففي قلب الرياض، يقام مركز الملك عبدالله المالي بتكلفة 10 مليارات ريال، والذي صمم ليكون أيقونة معمارية واقتصادية، ويستضيف مقرات لشركات عالمية مثل “ستاندرد تشارترد” و”بيت التمويل الكويتي”.
كما تطور سوق الأسهم السعودية “تداول” بشكل ملحوظ، حيث أصبحت جزءًا من مؤشرات الأسهم العالمية مثل (MSCI)، مما رفع من قيمة التداول اليومي إلى أكثر من 5 مليارات ريال.
وعلى صعيد التشريعات، أطلقت المملكة تحديثات جريئة، مثل قانون السوق المالية الجديد الذي يعزز الشفافية ويحمي حقوق المستثمرين، وانضمت إلى “مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)” بعد تشديد إجراءات مكافحة غسل الأموال.
كما دخلت السعودية عصر التقنية المالية (Fintech) عبر ترخيص 16 شركة رقمية، مثل منصة “واحة” للدفع الإلكتروني، واستضافت مؤتمرات عالمية مثل “ليب” لعرض الابتكارات المالية.
لكن هذه الإنجازات تواجه تحديات تشريعية خفية، فإجراءات استقدام الكفاءات الأجنبية ما زالت معقدة مقارنة بدبي، كما أن عدم وجود حوافز ضريبية تنافسية يقلل من جاذبية المملكة للمستثمرين.
بالإضافة إلى ذلك، تثير بعض القضايا، مثل تجميد أصول مستثمرين أجانب دون محاكمات شفافة، تساؤلات حول استقلالية النظام القضائي.
التحديات الخفية والمخاطر الكامنة
رغم الجهود المبذولة، لا تزال المملكة تواجه عقباتٍ استراتيجية قد تعرقل طموحاتها في أن تصبح مركزًا ماليًا عالميًا.
أولًا، المنافسة الإقليمية الشرسة؛ فدبي تمتلك بنية تحتية مالية متكاملة وسمعة دولية راسخة، بينما تقدم قطر حوافز ضريبية مغرية تجذب الاستثمارات.
ثانيًا، التقلبات الكثيرة لأسعار النفط، التي تذكر بأن الاقتصاد السعودي لم يتحرر تمامًا من قيود “الذهب الأسود”، مما يهدد استقرار التخطيط المالي طويل الأمد.
وثالثًا، التوترات الجيوسياسية في المنطقة، التي قد تقلص ثقة المستثمرين الأجانب في الاستقرار السياسي للمملكة.
ولا تغفل السعودية دروس التاريخ، فالبحرين، التي كانت رائدة في الانفتاح المالي، فقدت مكانتها بسبب محدودية السوق المحلية وعدم تنويع أدواتها الاستثمارية.
كما تلوح في الأفق تحذيرات من مخاطر الارتفاعات الصاروخية في أسعار العقارات بالرياض ، والتي قد تنذر بأزمة شبيهة بانهيار 2008، إذا لم تنظم السيولة المالية بسياساتٍ رشيدة تمنع التضخم غير المبرر.
اقرأ ايضاً: السعودية واجهة اقتصادية للاتحاد الأوروبي خلال العقد القادم
بين الطموح والحذر
تسابق السعودية الزمن اليوم لتحقيق حلمها في أن تصبح قوةً ماليةً عالمية، متسلحةً بإرادة سياسية فولاذية وموارد اقتصادية ضخمة.
لكن تحويل هذا الحلم إلى واقعٍ ملموس يفرض عليها تجاوز تحدياتٍ جوهرية، عبر إصلاحاتٍ جريئة تعزز استقلالية القطاع المالي، وتقلص البيروقراطية، وترسخ شراكاتٍ استراتيجية مع مراكز مالية رائدة عالميًا.
النجاح لن يكون مضمونًا دون تعلم الدروس من تجارب الجيران، مثل البحرين التي أخفقت في الحفاظ على مكانتها المالية، أو قطر التي تواجه تحديات التنويع الاقتصادي.
كما يتطلب الأمر تجنب الاندفاع غير المدروس، كالتوسع في الديون دون تقييم تأثيرها على الاستقرار المالي، أو إهمال مخاطر التضخم العقاري الذي قد يُعيد سيناريوهات الأزمات العالمية.
الطموح مشروع، لكن تحقيقه يبقى رهينًا بقدرة المملكة على الموازنة بين جرأة الإصلاح وحكمة التجنب، فإذا نجحت في تجاوز العقبات، ستصبح نموذجًا فريدًا لدولة نفطية تعيد اختراع هويتها الاقتصادية، وتلهم اقتصادات المنطقة.
أما إذا أخفقت، فستظل التساؤلات قائمةً حول مدى توافق رؤيتها مع معايير الاقتصاد الحديث الذي يعلي قيم الشفافية والاستقرار على المغامرات الطموحة.