تعتبر الصحة النفسية واحدة من حقوق الإنسان التي تكفلها الشرائع الدولية، وخصصت لها يوماً عالمياً، وتستند الصحة النفسية والعقلية بمفهومها على عدد من الركائز الأساسية أولها الحفاظ على الصحة البدنية، والتواصل مع الآخرين، بما يؤمن سبل العيش والرفاه للإنسان، وتشير الإحصاءات الدولية، إلى أنّ واحداً من كل ثمانية أشخاص يعاني اعتلالاً في صحته النفسية، وأغلب الضحايا من المراهقين والشباب.
وتخصص منظمة الصحة العالمية (WHO) الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام 2024، والموافق لـ10 أكتوبر، للتأكيد على الصحة النفسية في أماكن العمل، وجاء اختيار هذا الموضوع انطلاقاً من الاعتقاد بأن السلامة النفسية في مكان العمل ستنعكس حكماً على كامل حياة الشخص، مؤكدة أنّ أنماط التواصل داخل بيئات العمل تترك أثرها السلبي أو الإيجابي عند الأفراد.
وأكدت المنظمة العالمية على أنّ الاهتمام برفع معدلات الصحة النفسية في أماكن العمل سيعزز من إنتاجية الأفراد، وان كل ما يوفره رب العمل أو الجهة المنظمة لآلية سير العمل من عوامل تعزز الشعور بالانتماء، وتدعم إحساس الأمان، إلى جانب التحديد بالمهام وعدم إرهاق العاملين وتشتيتهم بأعباء إضافية غير مأجورة، سيرفع من كفاءة الأداء عند العاملين.
إقرأ أيضاً: الطب النفسي في المملكة العربية السعودية: تطورات وتحديات تدعم المرأة
ومن الدلائل على أنّ بيئة العمل صحية وسليمة، تدني الإجازات وحالات الغياب لاسيما لأسباب مرضية، وارتفاع حالة الروح المعنوية لدى الموظفين، وتمسكهم بأداء أعمالهم بالوقت المناسب والدقة المطلوبة، وهو ما أشار إليه تقرير صادر عن إحدى الشركات الاستشارية الأمريكية، وهي “ماكنزي آند كومباني” (McKinsey & Company)، وجاء في التقرير أنّ معدلات دوران الموظفين أي تنقلهم بين الأقسام والإدارات ينخفض في البيئات التي توفر صحة نفسية عالية، من جانب آخر تسجل الشركات التي تكفل سلامة الصحة النفسية لموظفيها (20%) كنسبة زيادة في الرضا الوظيفي.
على الجانب الآخر تبرز بعض الملامح المميزة لبيئات العمل المهملة للصحة النفسية لدى موظفيها، كالتمييز مثلاً، إذ تجد موظفاً يلعب دور البطولة في كافة الأدوار وهو مصدر ثقة عند الإدارة العليا، الأمر الذي يؤثر سلباً على بقية الموظفين، ويهمش الأدوار التي يمكن لهم لعبها، إلى جانب ذلك قد يتعرض الموظفون لمضايقات لا ينتظرونها في بيئة العمل كاستخدام التعنيف اللفظي والصوت المرتفع والاستفزاز وغيرها من الممارسات التي تدمر الصحة النفسية وتضر بعامل الأمان عند العامل، وهو ما ستحصد بيئة العمل بمجملها ثماره، من تراجع في الأداء وانخفاض في الإنتاجية، بالمقابل يعتبر توزيع الأدوار باعتدال وإعطاء الأهمية للجميع والتعامل باحترام أساساً لبناء بيئة عمل ناجحة.
وحذرت منظمة الصحة العالمية من تعرض الأفراد للأذى النفسي في مكان العمل، والذي سيؤدي في وقت معين إلى افتقار الأفراد للثقة بالنفس، وسيحد من شغفهم وقدرتهم على العمل، وسيمتد تأثير حالة الإحباط إلى أسر هؤلاء الأفراد والأشخاص الذين يقومون برعايتهم.
من جانب آخر يتحمل أرباب العمل خسائر كبرى ناجمة عن عدم رعايتهم للصحة النفسية للأفراد العاملين لديهم، إذ تؤدي حالات القلق والاكتئاب سنوياً إلى ضياع 12 مليار يوم عمل حول العالم وهو ما يعتبر مؤشراً خطيراً، إذا ما تمت مقارنته بالخسائر المادية والتي تقدر بـ تريليون دولار أمريكي سنوياً في جميع دول العالم.
وفي ذات السياق أكدت الشركة الاستشارية العالمية “مارش” (Marsh) والمتخصصة في الكشف عن المخاطر في بيئات العمل، أنّ الحفاظ على الصحة النفسية للموظفين هو التحدي الأول للعاملين في إدارة الموارد البشرية، وأنه من المهم لبيئات العمل الساعية للنجاح، أن تستقطب أولئك الذين يتمتعون بالشغف والفضول وروح المبادرة، لأنّ هؤلاء هم الذين سيحدثون الفرق في بيئات العمل والمجتمع أيضاً، لأنهم المحرك الأساسي للابتكار والإبداع.
ولتحقيق الصحة النفسية لا بد من مناقشة المواضيع المتصلة بالاعتلال النفسي في بيئة العمل، وهذا يستدعي تقديم التدريب اللازم للعاملين بالتعرف على مظاهر هذا الاعتلال وكيفية التعبير عنه، ومن أكثر المظاهر شيوعاً التوتر، وهنا يأتي دور المؤسسة في الإستماع للعامل وتوفير أسباب إزالة التوتر لديه حتى يتمكن من تحقيق التوازن الذي يعينه على أداء المهام المطلوبة بكفاءة أكبر دون أن تكون على حساب صحته النفسية.