كتب: محسن حسن
تشكل المهرجانات الثقافية أحد أهم الركائز الرئيسية في نشر الفنون والتراث الوطني لأي دولة من دول العالم، حيث تلعب هذه المهرجانات دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الثقافية المحلية للدول، كما تعمل على تعزيز انتماء المواطنين إلى تراثهم الأصيل والعريق، وذلك من خلال ما تمثله من فرص فريدة لتمتين الاعتزاز بالهوية الوطنية، وإشهار وحماية التراث الثقافي؛ فمن خلال المشاركة في الأنشطة والفعاليات المتنوعة لهذه المهرجانات، يتمكن الأفراد من استكشاف وإحياء المظاهر الثقافية والفنية التقليدية، كما تتمكن الأجيال المتعاقبة لفئات المجتمع من التعرف على مختلف الممارسات والطقوس المرتبطة بالموروث المحلي، وهو ما يساهم تلقائياً في إحداث عملية الربط الثقافي بين الإنسان ومكونات بيئة المحلية.
وعلى مدار السنوات الماضية، و تحديداً منذ العام 2016 عندما تم إطلاق رؤية السعودية 2030، برزت المملكة كوجهة رائدة في مجال تنظيم المهرجانات الثقافية المتنوعة، والتي عكست ثراءً وتنوعاً في بنية الموروث الفني والثقافي للسعوديين، حيث وجدت وزارة الثقافة السعودية الفرصة مواتية وجديرة بترسيخ آليات تفعيل المهرجانات والفعاليات المحلية، عبر دعمها المالي والاستثماري والإعلامي والخدمي، من خلال رفع كفاءة البنية التحتية للمرافق الثقافية والتراثية والبيئية، وتحويلها من مجرد أماكن اعتيادية مفتوحة ومهجورة إلى مزارات زاخرة بالأنشطة المعرفية والترفيهية، وهو ما كثرت معه هذه الفعاليات خلال السنوات الأخيرة، بحيث أصبحت لا تقل بأية حال من الأحوال عن مئات المهرجانات سنوياً، والتي تستقطب بدورها ملايين الزوار القادمين من مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي يتكشف مع مرور الوقت عن استثمارات نوعية وخدمية داعمة للاقتصاد الوطني وللناتج المحلي الإجمالي ولخطط التنويع الاقتصادي السعودية.
وتوجد في المملكة مهرجانات ثقافية عديدة الآن، تتجاوز ثلاثمائة مهرجان سنوي متنوع، وجميعها يتكاتف ويتعاضد من أجل أن يعكس روح السعودية الجديدة تجاه ثقافات العالم وحضاراته وأنشطته الجماهيرية، الفردية منها والجماعية، على جميع الصعد والمستويات، ولا يمكن أن يقتصر وجود فلسفة المهرجانات الثقافية في المملكة على السنوات الماضية منذ إطلاق الرؤية فقط، لأن المملكة امتلكت العديد من المهرجانات الثقافية التاريخية التي سبقت هذه الفترة بعقود متتابعة؛ فعلى سبيل المثال، هناك مهرجان (الجنادرية) الذي يعد من أقدم المهرجانات الثقافية السعودية على الإطلاق، وهو مهرجان سنوي يقام منذ عام 1985، ويحتفي بالتراث السعودي بكافة أبعاده من خلال تنظيم عروض تراثية متنوعة تعكس التنوع الثقافي والفكري والمعرفي لأطياف المجتمع السعودين سواء على مستوى الجماهير أو على مستوى النخبة، بما في ذلك العروض الفنية التقليدية، والأنشطة الحرفية، والمناقشات والسجالات الثقافية، إضافة إلى المعارض التراثية والتاريخية، ولا يزال هذا المهرجان التاريخي يشهد تطوراً تلو الآخر بعد أن خرج عام 2019 من عباءة وزارة الحرس الوطني إلى عباءة وزارة الثقافة، بعد قرار تاريخي لرئاسة الوزراء السعودية.
ونظراً لأن مهرجان الجنادرية المشار إليه يشكل منطلقاً ثقافياً أصيلاً لما عداه من مهرجانات سعودية حديثة تجد طريقها إلى النور على الساحة المحلية السعودية في الوقت الراهن، فقد كانت وزارة الثقافة السعودية منذ أن تسلمت الإدارة الخاصة بهذا المهرجان من وزارة الحرس الوطني السعودي بعد أكثر من ثلاثة عقود متتالية كان خلالها واقعاً تحت إشرافها ورعايتها، كانت حريصة كل الحرص على تهيئته بالشكل الذي يواكب مستجدات الانفتاح الثقافي الكبير الذي تشهده المملكة مؤخراً، وبالطبع تعد مهمة التطوير هذه من المهمات التي تتطلب مرونة كبيرة في التعامل مع فعاليات المهرجان السنوية والموسمية، خاصة وأن فعالياته السابقة كانت بالأساس متطورة ومتنوعة؛ حيث ظلت هذه الفعاليات على مدار تلك العقود الماضية، ثرية في أحداثها وشخصياتها على المستوى الإقليمي والدولي؛ فقد كان المهرجان مناسبة عربية وعالمية وكرنفالاً للعروض الثقافية للعديد من الدول المشاركة، وذلك بحضور أعداد كبيرة من الزوار، بمن فيهم القادة والزعماء وأهل الفكر والأدب، ما يعني أن مهمة تطوير هذا المهرجان ستمثل تحدياً مستمراً لوزارة الثقافة، وهي قادرة على مواجهة هذا التحدي، وهو ما يظهر من خلال مباشرتها لإدارة الأنشطة والفعاليات المتعلقة بأكثر من 15 قطاعاً متنوعاً في البلاد، مثل المواقع الثقافية والأثرية ومواقع التراث والحرف اليدوية المحلية وغيرها من القطاعات الأخرى التي تتميز بها البيئة السعودية.
اقرأ أيضًا: مهرجان صيف البصر 2024: إثراء المشهد الفني والثقافي في المملكة
ومن خلال جميع الفعاليات التي تتولاها وزارة الثقافة السعودية، هناك العديد من الركائز التي تستند إليها إدارة الأنشطة وتوجهاتها، والتي يأتي على رأسها ترسيخ الجذور الاجتماعية والثقافية والسلوكية والبيئية للموروث الوطني، والحفاظ عليه وعلى ملامحه المميزة للبيئة الوطنية والمحلية للسعوديين، حتى يبقى أصيلاً متوارثاً بين الأجيال المتتابعة، هذا إلى جانب الاهتمام الدائم والمتجدد بربط هذه الملامح التراثية بجذورها وهويتها العربية والإسلامية، بما يعكس امتلاك السعوديين حضارة منفتحة على الآخر، حاضنة ومتفاعلة مع كل حضارات العالم على اختلافها وتنوعها وتوجهاتها، دون فقدان هذه الهوية أو التأثير على رسوخها وحضورها وعراقتها في كل تفصيلة من تفاصيل ما يتم تقديمه من فعاليات وأنشطة وأحداث وحراكات، وهذا بالفعل هو ما تلتزم بجوهره وزارة الثقافة شكلاً ومضموناً؛ حيث تطورت فعاليات مهرجان الجنادرية كثيراً عما كانت عليه من قبل، فأصبح التركيز أكثر على أن تكون فعالياته عاكسة لذلك الموروث السعودي الوطني، عبر آليات أكثر حداثة وقدرة على الترويج والتسويق المبهر والجذاب، حيث نجد حرص الوزارة على تدشين مناطق وأماكن وقرى ومعارض مخصصة لمحاكاة التاريخ السعودي القديم ولمناطقه وأماكنه ومقتنياته وأدواته المستخدمة في فترات ماضية قد مر عليها أكثر من نصف قرن، وهذا وغيره ضاعف من أعداد زوار المهرجان كل عام، وهي الأعداد التي لا تقل عن ثلاثة أو أربعة ملايين زائر سنويا.
وفي واقع الأمر، لا يمكن تحقيق الحضور المحلي والإقليمي والدولي المنشود لهذا المهرجان أو لغيره من مهرجانات أخرى تتولى إدارتها وزارة الثقافة السعودية، دون ترويج وتسويق إعلامي لجميع الفعاليات، وهو ما تدركه الوزارة جيداً، ومن ثم، يتم مزامنة أي حدث ثقافي مهما كان حجمه ونطاقه، بتغطية إعلامية واسعة وقوية واحترافية في النقل والتصوير والبث والتسجيل، الأمر الذي يزيد من فرص انتشار الملامح الخاصة بالبيئة السعودية ثقافة وتراثاً وتاريخاً بين دول وشعوب العالم، وهو بدوره ما يساعد في التعريف الجماهيري والشعبي والرسمي بالفنون السعودية على مستوى العالم، على أن قيمة البث الإعلامي تزداد ثراءً وجاذبية بتنوع الإبداعات السعودية في كل المجالات كالفنون التشكيلية و الموسيقى والرقص والحرف التراثية اليدوية، وهو ما يساهم إلى حد بعيد حالياً، في تحفيز الفئات الشابة السعودية نحو إظهار إبداعاتها المختلفة بشكل ظهرت معه العديد من الفرق الفنية السعودية التي تشارك بدورها في جميع المهرجانات، وتحقق نجاحاً وحضوراً لافتاً على الساحة الدولية، ما يعزز صورة المملكة كوجهة ثقافية متفاعلة مع ثقافات العالم وشعوبه وحضاراته.
اقرأ أيضًا: هناء السقاف.. فنانة سعودية تحول إبداعها إلى نافذة على التراث الثقافي
وبالنظر إلى التأثير الكبير الذي تحدثه المهرجانات الثقافية على صعيد النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، نجد أن هذا التأثير يشكل دوراً بارزاً في تطوير البيئة السعودية الأثرية والبشرية؛ فعلى صعيد البيئة الأثرية تساهم المهرجانات الثقافية في تطوير البنية التحتية السعودية في كل المحافظات والمدن والمناطق تقريباً، كما أنها من الناحية البشرية والإنسانية، تساعد على تطوير التنمية البشرية وإعداد المواطن السعودي القادر على مواجهة التحديات وخوض التجارب الصعبة من خلال الإصرار على اكتساب المهارات العلمية والمهنية والحرفية والتقنية المختلفة، والتي تؤدي في النهاية إلى تكوين إنسان ناجح ومتوازن روحياً وأخلاقياً وسلوكياً، وذلك لأن المهرجانات الثقافية تُشكل منصة أساسية لرعاية المواهب الفنية والثقافية المحلية، ومن خلالها، يتم دعم وتحفيز الفنانين والحرفيين السعوديين، وإتاحة الفرصة أمامهم للتعريف بأعمالهم ومواهبهم وإبداعاتهم، ومن ثم، عرضها على نطاق واسع، الأمر الذي يُفضي إلى إبراز وتشجيع المواهب الشابة على الابتكار والإبداع.
ولا تقتصر اهتمامات وزارة الثقافة السعودية بتفعيل آلية المهرجانات الثقافية على مستوى الداخل السعودي فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى التمدد والانتشار بها خارجياً، عبر المبادرة بنقل المشاركات الثقافية الشاملة والمفعلة داخلياً، إلى حيز المشاركات الإقليمية والدولية، وذلك من خلال الاحتكاك المباشر بأية فعاليات ثقافية أو مهرجانات مشابهة في المحيطين العربي والعالمي، بهدف اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب الموجودة لدى الشعوب والحضارات والثقافات الأخرى، تارة من أجل التطوير والتحديث، وتارة أخرى من أجل نقل هذه التجارب إلى البيئة السعودية نقلاً واعياً بمتطلبات ومعايير المجتمع السعودي وخلفياته التوعوية والثقافية والهوياتية.
وانطلاقاً من هذا الاهتمام المشار إليه، وجدت وزارة الثقافة السعودية أنه من الجيد أن تتوسع في مشاركاتها ضمن سياق المهرجانات الثقافية العربية على وجه التحديد، وخاصة تلك التي تماثل مهرجان الجنادرية في الأصالة والتاريخ والحضارة، كخطوة ضرورية من خطوات التفاعل الثقافي السعودي المطلوب مع الثقافات العربية المحيطة، وذلك في إطار الانفتاح الإقليمي الناعم سعودياً على البيئة العربية بكل مكوناتها التراثية والحضارية، من أجل تعريف الشعوب العربية أكثر بنمط المكون الثقافي والتراثي الوطني السعودي، وبخلفياته التاريخية والحضارية، وأيضاً لتعريف هذه الشعوب بطبيعة الجهود التحديثية المبذولة لتطوير علاقة المواطن السعودي بمحيطه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي عربيًا، وهو ما سيكون له أكبر الأثر في تعميق أواصر العلاقات السعودية مع الشعوب العربية وحكوماتها المختلفة على كل الأصعدة والمستويات.
ووفق هذه النظرة السعودية المتجددة في التعاطي من المحيط الثقافي العربي، جاء حرص وزارة الثقافة السعودية على المشاركة الدائمة في مهرجان جرش الثقافي، وهو من المهرجانات الأردنية العريقة تاريخاً وعراقة؛ حيث يعد من قبيل الأحداث الثقافية والفنية المميزة التي تعمل على تبادل المعارف والخبرات الفنية مع الزوار من مختلف أنحاء العالم، وهو بالإضافة لكونه وجهة ثقافية، فإنه كذلك يشكل وجهة سياحية واقتصادية في المنطقة العربية، ويقام هذا المهرجان سنويًا منذ عام 1981 في مدينة جرش التاريخية، إحدى أهم المدن الأردنية، بحيث يستقطب زوارًا من كافة أنحاء العالم طوال فترة انعقاده التي تمتد لنحو شهر كامل، وهذا العام 2024 هو موعد الدورة الثامنة والثلاثين من هذا المهرجان، والتي انطلقت في الرابع والعشرين من يوليو الماضي.
وبحسب وزارة الثقافة السعودية، فإن المشاركة في مهرجان كبير كهذا المهرجان، يمثل فرصة واعدة لتحقيق حضور سعودي فاعل ومميز ضمن فعالياته وأنشطته ونوافذه المختلفة والمتنوعة؛ لذا فقد كان من المناسب جداً أن تنتشر العروض الفنية والتراثية للمملكة العربية السعودية في كل مكان من أماكن الفعاليات الخاصة بهذا المهرجان، كمسارح جرش وأجنحة السفارات الخاصة بالمهرجان، وهو ما استلزم أن تقوم وزارة الثقافة السعودية بالدفع بأهم هيئاتها الرئيسية لتكون حاضرة وذات تأثير جاذب ومتنوع وشامل. وعلى رأس هذه الهيئات ما يُعرف بــ(هيئة التراث)، والتي قامت بترويج وعرض الجوانب التراثية والحرفية والمهنية السعودية في المهرجان، وذلك عبر آليتين في العرض؛ الأولى من خلال تدشين معرض مصور جامع لتوثيق الأنشطة التراثية التي يمارسها السعوديون في بيئاتهم المحلية، والثانية من خلال مشاركة عدد من الحرفيين المحليين، مشاركة تطبيقية وعملية وحقيقية، يقومون خلالها بممارسة حية رآها الزوار لأهم الحرف والمنتجات اليديوية التي يجيدونها ويصنعونها.
اقرأ أيضًا: مستقبل العلاقات السعودية العراقية.. محفزات تقارب أمنية واستراتيجية وشراكات تعاون واستثمار!
ومن بين الهيئات الفنية التي عززت الوجود الفني السعودي في المهرجانات الإقليمية والدولية ومنها مهرجان جرش بالأردن، ما يُعرف بــ (هيئة الموسيقى) وهي من الهيئات المختصة بتقديم العروض والآلات الموسيقية؛ حيث تضم هذه الهيئة مجموعة من الموسيقيين المحليين الذين يمتلكون مهارات فنية ووطنية يمكنها التعريف بنمط الموسيقى المحلية في البيئات السعودية المختلفة، الحضرية منها والريفية، وهو ما أثرى حضور الموسيقى السعودية في مهرجان جرش، بل هو يثري المشاركات والفعاليات السعودية في سياق المهرجات الثقافية المعاصرة بصفة عامة.
وبالطبع لا تخلو المشاركات السعودية الثقافية في مهرجانات المنطقة العربية، ومنها مهرجان جرش، من الحضور الفاعل لإحدى الهيئات المتجددة والمتطورة في المملكة خلال السنوات الماضية، ألا وهي (هيئة الفنون المسرحية)، والتي تبني عليها وزارة الثقافة السعودية آمالاً كبيرة في التعريف بالمسرح السعودي وبالفنانين المسرحيين السعوديين كذلك؛ حيث تعتمد هذه الهيئة في عملها على تقديم مجموعة من العروض الأدائية المميزة، وفي دورة جرش لهذا العام، تم تخصيص فرقتين مسرحيتين؛ الأولى فرقة عروض مسرحية نسائية مكونة من عشر فنانات موهوبات في المسرح الجماهيري، والثانية فرقة عروض مسرحية رجالية مكونة أيضاً من عشرة فنانين موهوبين في عروض المسرح الجاد والضاحك، وهي الفرق التي قدمت عروضها المسرحية خلال أيام متتابعة على أحد مسارح المهرجان المضيف، كما هو متبع في مثل هذه المشاركات الفنية السعودية في الخارج.
وبعد، إن سياسة وزارة الثقافة السعودية، أصبحت جادة وواعدة في توظيف المهرجانات الثقافية توظيفاً واعياً بمتطلبات المرحلة، ما يعني أن خطط الوزارة القادمة ستركز حتماً على أن تبقى جميع الهيئات السعودية الخاضعة لإدارتها، معنة ف اعتماد نهج عام في التعريف بالتفاصيل الدقيقة والمغرقة في المحلية للمجتمع السعودي والبيئة السعودية الثرية بخلفياتها ومكوناتها الجامعة بين جمالية الشكل وحضارية المضمون.
اقرأ أيضًا: ارتفاع الأصول في صندوق الاستثمارات العامة يحقق عوائد مستدامة