في المملكة العربية السعودية، يوجد مواهب فنية لا تعدّ ولا تُحصى، تسهم في تشكيل مستقبل الفن في البلاد، ومن خلال إبداعاتهم، يفتح هؤلاء الفنانون آفاقاً جديدة للفن، ويصلون باسم بلادهم إلى العالمية.
وتعد مها الملوح إحدى هؤلاء المبدعين، فهي فنانة تشكيلية بارزة في المملكة، استطاعت بفنها أن تتجاوز حدود المكان وتُبرز جماليات فنية تعكس عمق الفكرة ووعيها الفريد، ونجحت في خلق تجربة فنية متميزة، تتسم بخصوصية انتمائها لطبيعتها وبيئتها.
مسيرتها الفنية بدأت ترى الضوء في سن السابعة عشر، حين انطلقت في رحلة استكشاف فني وبصري عميق، مدمجة بين توازنات بصرية متعددة وروحها الأصيلة، وتُظهر أعمالها تأثيرات قوية من العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية والثقافية التي تميز مجتمعها.
تتميز أعمال مها بالقدرة على استكشاف الماورائيات، إذ تطرح رؤى جديدة تتجاوز المألوف، وأسلوبها الفريد يعكس تفاعلها مع محيطها، ويُظهر كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء.
اقرأ أيضاً: منال الضويان فنانة سعودية تُبدع في كل لقطة!
وُلدت مها الملوح عام 1959 في جدة، وتعيش في الرياض، ومنذ صغرها، كانت الفنون التشكيلية والتصوير شغفها الأكبر، وقد وصفت نفسها بأنها فنانة ذاتية التعلم، حصلت مها على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك سعود، وشهادة في التصميم والتصوير الفوتوغرافي من كلية دي أنزا في كاليفورنيا، كما قضت عامين في دراسة تاريخ الفن في جامعة ساوثرن ميثوديست في دالاس.
اختارت الفنانة أن تبدأ مسيرتها من خلال فن الكولاج، الذي تضمن مجموعة غنية من الزخارف والرموز التي تعكس عمق الثقافة النجدية على مر العصور، إذ تعكس أعمالها الفنية الأصالة والتراث السعودي، مستخدمةً الألوان الزاهية والزخارف المستلهمة من العمارة القديمة.
أقامت مها الملوح أول معرض منفرد لها في «غاليري أو» بمدينة الرياض عام 2007، لتبدأ رحلة مميزة في عالم الفن، شاركت بعد ذلك في أحداث دولية عديدة، منها معارض المبادرة الفنية «حافة الجزيرة العربية»، وبرزت في بينالي البندقية السابع والخمسين عام 2017.
كما كان لها حضور في ساتشي غاليري بلندن عام 2016، وفي معرض «آرت بازل أنليمتد» عام 2014، إضافة إلى معرض «هوزر آند ويرث» بلندن عام 2013، كما شاركت أيضاً في معرض الحج بالمتحف البريطاني عام 2012، وفي معهد العالم العربي في باريس في عامي 2012 و2014.
وتمتاز أعمالها بوجودها في مجموعة من المتاحف العالمية المرموقة، بما في ذلك متحف اللوفر، ومتحف غوغنهايم في أبو ظبي، والمتحف البريطاني، و«تيت مودرن» في لندن، ومتحف ماك في فيينا، ومركز جورج بومبيدو في باريس، ومتحف سان فرانسيسكو للفنون الحديثة.
اقرأ أيضاً: محمد الحربي.. فنان سعودي مع موهبة مميزة في التمثيل والرسم
هذه الفنانة الموهوبة، تجعلنا نرى من خلال أعمالها الفنية أموراً بسيطة بطريقة مختلفة تماماً، وتثير فينا الدهشة، وتتناول إبداعاتها قضايا عالمية هامة، مثل النزعة الاستهلاكية، والذاكرة، والجندرية، والتغيرات الاجتماعية، ومع ذلك، تبقى أعمالها متجذرة في الثقافة والتاريخ السعودي، ويظل بلدها هو مصدر إلهامها الأساسي.
في عام 2010، بدأت الملوح في تقديم أعمال فنية باستخدام تقنية الفوتوغرام، تتضمن هذه التقنية وضع أشياء بين مصدر الضوء وورق التصوير، ما يخلق ظلالاً بيضاء بينما يتحول باقي الورق إلى اللون الأسود.
وفي عملها «كشف النقاب»، استخدمت الفنانة أدوات طهي تشبه ألعاب الأطفال البلاستيكية، عادةً ما كانت هذه الأدوات تُستخدم من قبل النساء والفتيات، في هذا العمل، عرضت الفنانة هذه الأدوات بطريقة مكشوفة، كما لو كانت وجوهًا بشرية.
على الرغم من أن الطريقة المستخدمة في هذا العمل تختلف عن تلك في سلسلتها التالية «غذاء الفكر»، إلا أن كلا العملين يركزان على المواد الاستهلاكية وأدوات الطهي المهملة، إضافة إلى قضايا الجندرية وحياة الأشخاص الذين استخدموا هذه الأدوات.
اقرأ أيضاً: من هي سيدة الأعمال السعودية أفنان الشعيبي؟
أما في تجربتي «المعلقات» و«غذاء الفكر»، استخدمت مها الأواني القديمة التي اقتنتها من الأسواق الشعبية، وعلّقتها تحت عنوان «المعلقات»، ومن خلالها، رصدت الملوح التغيرات الاجتماعية والثقافية، وناقشت كيف تتطور الهوية في مجتمع له تاريخ أدبي مؤثر.
تتجاوز أواني الطبخ المستعملة، الملطخة بسواد الطهي، كونها مجرد أدوات، إذ حولتها الفنانة لرموز الحياة اليومية وعكست واقع الحياة الجماعية في السعودية، فكانت الأواني تتحدث عن الإنسان وعلاقته ببيئته ومجتمعه، وتُظهر الأفراح والأحزان والعادات والتقاليد، محددةً كيف يحدد الطعام الاجتماعيات والتفاعلات.
وفي جزء من سلسلة «غذاء الفكر» بعنوان «أما بعد» (2017)، تتجلى الأنماط الهندسية واللونان الأزرق والأبيض في شكل زخارف تقليدية تذكّر بفن القرميد الإسلامي، لكن عند الاقتراب من العمل، نكتشف أن هذه الأنماط تتكون من أشرطة كاسيت مرتبة بعناية داخل صناديق خشبية.
تندرج هذه القطعة تحت مفهوم «أسلوب ما بعد دوشامب»، الذي يعتمد على استخدام الأشياء الجاهزة، لكنها تتجاوز نهج دوشامب الذي كان يسعى لاكتشاف الأشياء العادية، فالعناصر التي تختارها مها الملوح تحمل دائماً دلالات ثقافية وتاريخية عميقة.
إذ تعود أشرطة الكاسيت المستخدمة في العمل إلى مجموعات دينية تقدم خطباً تناقش موضوعات مثل سلوك المرأة، وفي «غذاء الفكر»، تتحول هذه الأشرطة إلى قطع بلاط، بينما تستحوذ النساء عليها، حيث يضعنها في صواني الخبز، هذه الصواني، مثل أواني الطبخ، تمثل عناصر أساسية في عمل النساء التقليدي.
كما تشكل الأنماط والأشكال في العمل كلمات عربية ذات طابع هندسي، تتشابه مع الخط الكوفي، وتكتب، على سبيل المثال، كلمات مثل «عيب»، «حرام»، و«باطل».
اقرأ أيضاً: نهى الحارثي تحصد جائزة المرأة العربية للعلوم والتكنولوجيا لعام 2024
وإلى جانب أعمالها الفنية المثيرة، نجحت مها الملوح في مشاركتها في مشروع «شمالات» الدرعية، الذي يعد تجربة فنية مبتكرة، تعكس مسيرتها واهتمامها بالهوية والثقافة المادية في المنطقة، إذ يمثل هذا المشروع استمراراً لاستكشافها الفني، فقد تحول عقار قديم على أطراف الدرعية إلى مساحة ثقافية، تعزز الحوار بين الماضي والحاضر والمستقبل.
حاز «شمالات» على جائزة الأمانة للإبداع المعماري والعمراني لعام 2023، وهو يقدم تجربة متكاملة تجمع بين الفن والهندسة المعمارية والمأكولات المحلية، ومن خلاله تسلط الملوح الضوء على قوة رواية القصص لتغيير النظرة إلى التاريخ، حيث يعيد منزل الطين الذي تم تجديده رسم صورة جديدة لمنازل الطين التقليدية.
ختاماً، نجحت الفنانة مها الملوح، بأسلوبها الفريد والمبتكر، في ترسيخ اسمها ضمن الشخصيات البارزة في مجال الفن التشكيلي ليس فقط في السعودية، بل على مستوى العالم العربي والعالم أجمع، ومن خلال إبداعاتها، تلهم الفنانة الموهوبة أجيالاً جديدة من الفنانين والفنانات.
اقرأ أيضاً: من هي الأميرة سارة بنت مشهور آل سعود؟