حاورتها: مي عبداللطيف سليمان
بعض الأشخاص يولدون في مكان معين، يعيشون تفاصيل حياتهم داخل الحدود الجغرافية لهذا المكان دون أن يشعروا بحاجة لولوج أماكن أخرى، لكن بعضهم الآخر يتوق لخلق نافذة يطل من خلالها على أماكن جديدة، يستكشف ثقافاتها ويستشعر الجمال المنبثق منها، وربما يوثقه وينقله إلى الآخرين، ليغدو بذلك صلة وصل بين شعوب وبلدان العالم. منهم من تكون أداته في ذلك الأدب، وآخرون الفن أو الموسيقى أو الرسم التشكيلي، ومنهم من تكون نافذته إلى العوالم الأخرى عدسة الكاميرا القادرة اليوم أكثر من أي وقت مضى على توثيق الجمال وحفظه، كحال المصورة الوثائقية السعودية ريم الفيصل .
رحلة حافلة بالإنجازات والتحديات خاضتها السعودية الأميرة ريم الفيصل على مدى أكثر من 30 عاماً، بدأتها في مدينة جدة عندما قررت وهي ابنة السادسة عشر عاماً احتراف التصوير الفوتوغرافي. فبعد أن حصلت على بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة الملك عبد العزيز، التحقت بمعهد سبيوس في مدينة باريس لدراسة فن التصوير الفوتوغرافي، لتبدأ بعدها مشوارها بين حضارات العالم برفقة عدسة كاميرتها التي استطاعت أن تخلق لنفسها مساحة يصعب تكرارها أو ربما تقليدها.
أقامت أوّل معرض محترف لها في جدّة عام 1998، تضمن مجموعة صور بالأبيض والأسود عن باريس، تلاه معرض عن ميناء جدة الإسلامي الذي كانت أول مصوره سعودية توثق تفاصيله، كما كانت أول مصورة فوتوغرافية توثق تفاصيل شعائر الحج في منى وجبل عرفة ومزدلفة وموقع الجمرات والمسجد الحرام بأسلوب متفرد استطاع تجسيد الثقافة الإسلامية كإرث حضاري يمكن للجميع أينما كانوا استشعار جماله.
معارض عديدة احتضنت أعمال ريم الفيصل التي وثقت الحياة اليومية والمناظر الطبيعية في بلدان عديدة منها أمريكا وإيران والصين واليابان وإيطاليا وتركيا ومصر والمغرب وتونس وسوريا، لتجمع صورها إبداع صنع الخالق وحياة الإنسان التواقة للخلود بكل تفاصيلها، كما أسست عام 2009 غاليري الربع الخالي في دبي، كأول غاليري مخصص للتصوير الفوتوغرافي، ولعبت دوراً محورياً في إنشاء فرع لمعهد سبييوس للتصوير الفوتوغرافي في دبي.
وللتعرف أكثر على تفاصيل هذه الرحلة المفعمة بالإنجازات والتحديات، كان لآرابيسك لندن هذا اللقاء مع المصورة الوثائقية السعودية ريم الفيصل.
أحياناً يشعر الفنان بعجز خليط الألوان المتنوع بين يديه عن إيصال فكرته، كيف استطاعت عدستك الاقتصار على اللونين الأبيض والأسود؟ وما الفلسفة التي تحملها وراء ذلك؟
باعتقادي الشخصي استخدام الأبيض والأسود في التصوير الفوتوغرافي له رمزية خاصة قادرة على إيصال النواحي الفلسفية والميتافيزيقية في الصورة، بالنسبة لجيلي كنا وما نزال نعتبر أن هذا النوع من التصوير أكثر حرفية، إذ يسمح للمصور بالانفصال عن الواقع ونقل ما وراء هذا الواقع.
متى لجأت إلى التصوير بالألوان؟ وهل تشعرين أنك تأخرتِ قليلاً باتخاذ هذه الخطوة؟
منذ حوالي أربع سنوات عندما بدأت لأول مرة بتصوير مناطق واسعة في المملكة العربية السعودية، حاولت حينها التصوير بالأبيض والأسود، لكنني لم أشعر أن هذين اللونين يكفياني لإيصال ما أريد، فلجأت إلى التصوير الديجيتال لأول مرة، لتكون هذه المرحلة نقطة تحولي نحو التصوير بالألوان.
في البداية كان اهتمامي بتصوير ما وراء الطبيعة، والإنسان وتفاعله مع محيطه، لكن عندما بدأت التصوير بالألوان، بات الموضوع نفسه هو اللون، لذلك أعتقد أنني لم أتأخر في اتخاذ هذه الخطوة، لأنها لم تكن تناسب أهدافي التي وضعتها لنفسي في البداية.
كيف ساهمت رحلاتك بين بلدان العالم في تشكيل رؤيتك الفنية؟
التصوير بالنسبة لي هو نوع من الترحال، أستكشف الحضارات والثقافات وتاريخ الدول من خلال عدسة الكاميرا، ودائماً ما أحب أن أحيّد نفسي عن الموضوع المصوَّر، لأنظر للصورة بعين الغريب، تاركة للمكان التعبير عن نفسه وقصته بعيداً عن نظرتي الشخصية.
هل تعتقدين أن صورك ألغت الفوارق بين الحضارات والثقافات؟
دائماً ما كانت طريقتي في التصوير تختلف من بلد لآخر، بحسب طبيعة كل بلد وحضارتها، أحاول أن أتشرب حضارة كل مكان لتنعكس هذه الحضارة عبر الصور التي أقوم بالتقاطها، فالتصوير الفوتوغرافي لا يلغي هذه الفوارق بقدر ما يبرزها كعنصر إثرائي لتنوع الحضارات وتكاملها.
هل يوجد مكان تتمنى ريم الفيصل لو تعيد فيه تجربة التصوير أكثر من مرة؟
أحببت كثيراً الصين وحضارتها القريبة جداً من حضارتنا السعودية، وسأعيد تصوير هذه البلاد في حال أتاحت لي الظروف ذلك.
تشهد السعودية الآن نهضة فنية هامة، برأيك ما الذي ينقص هذه الحركة رغم ما تشهده من تقدم متسارع؟
أرى أن الحركة الفنية العربية بشكل عام مازالت تفتقر للكثير من الأشياء، لعل في مقدمتها الثقة بحضارتنا، كما أرى أن الفن العربي الحديث ما هو إلا تقليد للفن الغربي والحضارة الغربي.
حتى أن أعلى قيمة من الفنون الحديثة في العالم العربي ليست نابعة من حضارتنا، هذه الحضارة العريقة والغنية جداً من كل النواحي، والتي لا يوجد ثقافة في العالم إلا ومدينة لها من ناحية اللغة والكتابة والديانات، ورغم كل هذا الغنى لم يستطع الفن العربي في العصر الحديث أن يعيد إنتاج هذه الحضارة الأصيلة.
إذاً، توافقين الرأي القائل إن الشعب العربي بات شعباً مستهلِكاً أكثر منه منتجاً؟
نعم، وهذا ليس جديداً، نحن بتنا شعباً مستهلكاً منذ أن أثقل الاستعمار كاهلنا، ورغم أننا حضارة متجددة بامتياز، إلا أنني لم أرى حتى الآن هذا التجدد، كل ما أراه هو تقليد للحضارات الأخرى.
أي نصيحة تقدمينها لاسترجاع هذا التجدد؟
أعتقد أن الموضوع يقع على عاتق المؤسسات الأكاديمية، لناحية إعادة فهم تاريخ الفن العربي، وتعريفه بما يتناسب مع حضارتنا وليس مع الحضارات الأخرى، فعل سبيل المثال، يعتبر الفن العربي الحديث أن المسرح هو أصل الفنون، لأنه كان كذلك لدى الإغريق، لكن بالنسبة لنا هذا ليس صحيحاً، إذ لكل حضارة خصوصيتها ولا يوجد حضارة ذات درجة أولى أو ثانية، بل الموضوع تكاملي أكثر منه تنافسي.
هناك من يتهم الحضارة العربية بأنها منغلقة على نفسها وغير قادرة على الاندماج بالحضارات الأخرى وخصوصاً الغربية، هل توافقين هذا الرأي؟
لم تكن الحضارة العربية يوماً منغلقة على نفسها، بل هي أكثر حضارة منفتحة في العالم، وهي أساس كل الحضارات ومنبع الديانات السماوية، بل على العكس فإن الغرب هو المنغلق على نفسه ولا يقبل إلا ما يشبهه، حتى أنه فصل الدين عن الفن والثقافة، على عكسنا نحن العرب الذين تنبع ثقافتنا من الدين وهما مرتبطين بشكل وثيق يكاد لا ينفصل، فإذا نظر إلينا الآخرون على أن ثقافتنا ركيكة لأنها مرتبطة بالدين فهذه مشكلتهم وليست مشكلتنا، الدين كان وما يزال وسيبقى منبع الثقافة العربية وهذا ما يميزنا عن باقي الحضارات.
ما رأيك بالعلمانية؟
ما هي العلمانية؟ هل نحن حقاً ندرك المعنى الحقيقي للعلمانية؟ أم أننا استوردنا هذا المصطلح من الغرب؟ هناك من يدعي أن العلمانية عداء للدين، لكن الحقيقة أن الغرب خلق العلمانية حتى يتقبل الآخر، فقبل أن يتم اختراع هذا المصطلح كان الغرب يعيش حالة حروب دينية طاحنة، في حين أننا العرب نعيش منذ آلاف السنين مع بعضنا البعض بتنوع ديني وثقافي منقطع النظير، على الجميع أن يعي أننا العرب نعيش ونطبق العلمانية بشكل فطري، حتى أننا من أوجدناها بمعناها الصحيح ولم ندعِ تطبيقها كغيرنا.
هل ترين أن المرأة السعودية كانت مغيبة عن المشهد الثقافي؟
المرأة السعودية لفترة معينة كانت مغيبة عن المشهد الثقافي لأسباب كثيرة، لعل في مقدمتها حركة الصحوة المتطرفة التي ظهرت بعد الثورة الإيرانية والهجوم على مكة المكرمة، لكن المرأة السعودية تخطت هذه المرحلة، وباتت جزءاً مؤسساً من الدولة السعودية خصوصاً في مجال التنمية، فرغم كل الصعاب التي كانت موجودة اتجهت المرأة للتعليم، حتى بات هناك نساء طبيبات ومهندسات ومعلمات وعالمات في مجالات مختلفة، حاولن إثبات وجودهن كل من مكانها.
كيف ترين مستقبل المرأة السعودية خلال المرحلة المقبلة؟
أراه زاهراً بامتياز، فما حققته المرأة السعودية خلال الفترات الماضية خير دليل على أنها قادرة على تحقيق المزيد والمزيد، فجميع المجالات مفتوحة أمامها الآن للمشاركة في بناء وتطوير المجتمع.
ولو خيرنا ريم الفيصل أن تعيش مرحلة في تاريخ السعودية غير الحالية، أيها تختار ماضياً أو مستقبلاً؟
أختار بدون أدنى شك مرحلة بداية الإسلام أيام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، إذ أعتبر أن الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجت في تلك الفترة كانت مميزة ولها طابعها الخاص عن باقي الحضارات، لناحية الزخم في الإنتاج والنوعية، والتي أسست لما بعدها من حضارات.
أين وصلت جهود إصدار كتاب ومضات سعودية؟
أعمل الآن على كتاب أحوال النور، وبعد الانتهاء منه سأتجه لكتاب ومضات سعودية، أعتقد أنه يحتاج ما بين السنة والسنتين حتى أتمكن من التفرغ له وإصداره.
بماذا تختلف أعمال ريم الفيصل في أول معرض أقامته في التسعينات عن أعمالها اليوم؟
الصور التي ألتقطها اليوم هي أكثر تعبير عن نظرتي الشخصية، في حين الصور في مراحلي الأولى كانت بالأبيض والأسود لأجعل المكان هو من يتحدث عن نفسه دون إضفاء أي طابع شخصي لي فيها، يمكنني أن أعتبر أن الصور التي ألتقطها اليوم للسعودية هي عبارة عن حديث بيني وبين بلدي.
تجارب عديدة تعيشها الدول العربية آخرها تجربة سوريا مع استعادة حريتها، لو كانت ريم الفيصل موجودة في سوريا الآن إلى أين تتوجه عدستها؟
سوريا من أحب الدول إلى قلبي، زرتها سابقاً والتقطت صورا لدمشق وتدمر والسويداء، وكنت أنوي العودة إليها لاستكمال رحلة التصوير، لكن الحرب حالت بيني وبين ذلك، أنا أرى سوريا من أجمل الدول العربية، وأحتار الآن في حال تواجدي في دمشق أين أبدأ التصوير، فهذه البلاد مثقلة بالجراح، لكنني أراها جراح بناءة ستصنع وطناً عظيماً، فأهل الشام تعرضوا للظلم مرات عديدة خلال تاريخهم، لكنهم استطاعوا التخلص منه والعودة من جديد بكل ما يحملونه من ثراء حضاري وفكري.
برأيك لمن ترجح كفة الميزان في المستقبل كناقل للحضارات، للصورة أم للكلمة؟
الكلمة، فالكلمة أصل الفنون، حتى لغة البرمجة هي عبارة عن كلمات!
كيف ترين دور التكنولوجيا الحديثة في تطوير فن التصوير الفوتوغرافي، وهل تعتقدين أن هناك حدوداً يجب أن نضعها عند استخدام هذه التكنولوجيا؟
أنا من أوائل المصورين العربي الذين اعتمدوا تقنية NFT، فلكل مرحلة لها طريقتها في عرض الفنون، ولا أخاف على التصوير الفوتوغرافي من أن تفقده التكنولوجيا هويته، لأن هذه الهوية مرتبطة بالمصور نفسه وليس بالأدوات التي يستخدمها.
أي دور ترينه للفن السعودي في رؤية المملكة 2030؟
الفن السعودي يسير بخطى واثقة يراكم فيها الإنجازات ليصنع لنفسه مساحته الخاصة، فأنا لا أؤمن بأن الفن يحقق قفزات نوعية، بل الموضوع عبارة عن عملية تراكمية لجهود تبذل بشكل مستمر، فكما كل القطاعات الأخرى الاقتصادية منها والتنموية، تعمل المملكة العربية السعودية على النهوض بالحركة الفنية التي أتوقع لها مستقبلاً مشرقاً يليق بها.
كلمة أخيرة للجيل الجديد من المصورين والفنانين في السعودية؟
على المصور ألا يهتم بأدواته التي يمكن أن تكون بدائية أو في قمة التكنولوجيا، هذا لا يهم، المهم المصور هل لديه ثراء وثقافة كافية لينقل هذا من خلال التصوير؟ وهذا يأتي من خلال التعلم والدراسة وسعة الاطلاع والقراءة، عبارة تراكمات علمية وثقافية وحضارية تنتج من خلال ثواني على هيئة صورة.