كتب: محسن حسن
عندما أطلقت المملكة العربية السعودية رؤيتها للعام 2030، كان شاغلها الشاغل تحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة والكفيلة بنقل الاقتصاد الوطني من صورته الأحادية والريعية إلى واقع جديد تتعدد فيه الموارد الاقتصادية غير النفطية، بحيث تستطيع هذه الموارد لاحقاً، تغطية أعباء وتحديات مرحلة ما بعد النفط، على كل الصعد والمستويات، وخاصة صعيد الأحوال الاجتماعية والمعيشية.
وبالطبع، لم تكن النواحي الاستراتيجية والأمنية ببعيدة عن المستهدفات الاقتصادية السعودية في ذلك التوقيت، غير أنه لا يمكن الجزم بأن تلك النواحي، كانت قد احتلت وقتها المساحة الكافية من الاهتمام والتخطيط عند إطلاق الرؤية، نظراً لغلبة المنطق الاقتصادي وهيمنته على مجمل أولويات تلك المرحلة، وأيضاً بفعل سيادة بعض المقتضيات الإقليمية الدافعة إلى خوض التنافس الاقتصادي والتجاري والاستثماري، أكثر من كونها دافعة إلى حدة التنافس العسكري والأمني، على الرغم من ارتباط الجانبين وعدم انفكاكهما ضمن سياق الأهداف الكلية والإجمالية للمملكة.
وفي حال نظرنا إلى مركزية الاهتمام السعودي بالأوضاع الأمنية والاستراتيجية والجغرافية لمنطقة البحر الأحمر، فسوف تقودنا النظرة التحليلية ومجمل مؤشرات التقييم المتخصص، إلى حقيقة ثابتة، ألا وهي رسوخ الاعتقاد الجازم بالأهمية القصوى التي تمثلها هذه المنطقة بالنسبة لكافة المخططات والرؤى الإصلاحية السعودية حالاً ومستقبلاً، ليس لدى القيادة السعودية فحسب، وإنما أيضاً لدى المواطن السعودي بصفة عامة، لما يرتبط بها من اعتبارات حيوية شاملة تمس الأمن الإقليمي والخليجي والدولي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن رغم هذا الإدراك السعودي الواضح للأهمية الحيوية للمنطقة المشار إليها، لا يسعنا في المرحلة الراهنة، وفي ظل ازدياد حدة الاستقطابات الإقليمية والدولية واشتداد وتيرة التطلع متعدد الأقطاب نحو المواقع الجغرافية المتميزة ومنها موقع البحر الأحمر ومحيطه، إلا أن نطرح السؤال التالي: هل يكفي التخطيط والإصلاح الاقتصادي الراهن ضمن سياق رؤية 2030، للوصول إلى بلورة استراتيجية سعودية متكاملة تحقق الاستفادة الشاملة والمستدامة والجيوسياسية من منطقة بهذا القدر من الأهمية المحلية والإقليمية والدولية؟
وللرد على التساؤل السابق، لابد أولاً من لفت الأنظار إلى أن منطقة البحر الأحمر وخاصة من الناحية التاريخية عبر عقود ماضية، كانت من بين المناطق الأكثر تعقيداً على مستوى السياسات الخارجية للمملكة العربية السعودية، نظراً لما يحيط بهذه المنطقة من اعتبارات الربط بين شبه الجزيرة العربية والقارة الإفريقية من جهة، والاضطرابات الأمنية المتزايدة على حدودها وفي محيطها من جهة أخرى، مع الأخذ في الحسبان امتداد تلك الاضطرابات على طول سواحل البحر الأحمر مروراً وانتهاءً بمضيق باب المندب وخليج عدن. ومن ثم، فإن المفهوم من حرص المملكة الراهن على إحداث التطوير الاقتصادي واللوجستي في هذه المنطقة، أنه يهدف بالأساس إلى تحقيق أعلى معدلات الاستقرار والضبط الأمني والاستراتيجي وليس الاقتصادي فقط، الأمر الذي أصبح من وجهة النظر السعودية المسؤولة، يتطلب بذل المزيد من الجهود المضاعفة والجادة والشاملة، من أجل مواجهة التحديات الأمنية الجديدة التي أفرزتها الحرب الأخيرة في غزة بعد عملية السابع من أكتوبر، تلك التحديات التي تقتضي خروج النظرة الإصلاحية السعودية لمنطقة البحر الأحمر، من مجرد استهداف الحصول على عوائد اقتصادية واستثمارية وتجارية فحسب، إلى فضاءات أوسع من التنسيق السياسي مع الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة؛ إذ أنه على الرغم من تحسن القدرات الدفاعية السعودية أمنياً وعسكرياً بحرياً، إلا أن مقتضيات المشهد الإقليمي الآخذ في التأزم والتعقيد، تحتم على القيادة السعودية رفع درجات التعاون الشامل مع مجمل الدول المطلة على البحر الأحمر ، ضمن سياق من استراتيجية جديدة تعي متطلبات المرحلة وتوجهاتها الحالية والمستقبلية، بعدما أصبح حاضر المنطقة الراهن، مختلفاً تماماً عن ماضيها من حيث اشتداد المخاطر وتعدد أقطابها.
الاستثمار والأمن البحري
ومن ينظر إلى طبيعة الجهود الاقتصادية السعودية الجارية في منطقة البحر الأحمر، سيلاحظ أن العقد الأخير شاهد على غلبة نمط الاقتصاد الاستثماري على تلك الجهود؛ حيث تم التركيز على رفع كفاءة البنية التحتية وتدشين العديد من المشاريع الكبرى المرتبطة بتلك المنطقة وبسواحلها الممتدة؛ فعلى سبيل المثال أطلقت رؤية 2030 اللوجيستية في البحر الأحمر العنان لإنشاء ميناء ومشاريع مدينة نيوم العملاقة، وكذلك مشاريع المنتجعات الساحلية على ساحل البحر الأحمر والتي تم من خلالها تطوير موانيء مثل ميناء جدة وميناء الملك فهد الصناعي في منطقة ينبع، إلى جانب قيام شركة أرامكو النفطية بتوسيع نطاق خططها الإنشائية والتحديثية الخاصة برفع معدلات الطاقة الإنتاجية لقطاعاتها المختلفة، وفي معظم تلك الجهود الموسعة كان ارتباط الحركة الاقتصادية بنظيرتها الاستثمارية واضحاً لدى المخطِط السعودي، وعلى وجه الخصوص، فيما يتعلق بالإطار الفاعل والديناميكي لعلاقات المملكة الدولية بأطراف إقليمية يرتبط اقتصادها بالبحر الأحمر وبمنطقته الحيوية، وهو ما بدا واضحاً من شراكات الرياض واستثماراتها الموسعة مع تلك الأطراف؛ فعلى سبيل المثال، وصل معدل الاستثمار السعودي في مصر لأكثر من ستة مليارات دولار، كما تنامت الاستثمارات السعودية بشكل كبير في عموم دول القارة الإفريقية السمراء انطلاقاً من منطقة القرن الإفريقي عبر الصومال وجيبوتي وإثيوبيا والسودان، إلى غير ذلك من أوجه التعاون الجامع بين التنمية الاقتصادية والاستثمارية من جهة، والعلاقات الخارجية والدولية من جهة أخرى، رغبة في تحقيق أعلى قدر من معدلات النمو الاقتصادي في هذه المنطقة الحيوية والبحرية، وكذلك في عموم المناطق السعودية الأخرى، ما يعني أن إقرار الأمن البحري، لا يزال في حاجة ماسة إلى توسيع نطاق أهدافه ومحيطه الإقليمي والدولي.
اقرأ أيضاً: قطاع التقنية الحيوية السعودي.. ركائز واعدة للاستثمار و الاستدامة والاكتفاء الذاتي
الرؤية والنطاق
وعملياً، يجب أن تضع القيادة السعودية في حسبانها خلال المراحل المستقبلية المتعلقة بالأولويات الاقتصادية المتقدمة، أن يصبح التخطيط الأمني والاستراتيجي أكثر حضوراً عن ذي قبل ضمن سياق الرؤى الإصلاحية المختلفة والقطاعية، وخاصة في المنطقة المشار إليها، فرغم مرور أكثر من 11% من التجارة البحرية العالمية، بما في ذلك أكثر من 25% من إجمالي النفط الخام المنقول بحراً، عبر البحر الأحمر، إلا أنه يستحيل إنجاح البعد الاقتصادي المبني على حركة المرور تلك، بمعزل عن الشرط الأمني والاستراتيجي، وهو ما تدركه المملكة جيداً، غير أنه يحتاج فقط إلى توسيع نطاق التطبيق الميداني والجغرافي والحدودي، بل والإقليمي ككل، من أجل إكساب العمليات اللوجيستية والتجارية والاستثمارية زخماً راسخاً من الاستقرار والحماية المحفزة على أريحية الممارسات الاقتصادية بصفة عامة، والتي أصبحت تتيحها أمام الحراكات التجارية الدولية، تلك النهضة الإنشائية والتحديثية المتزايدة عبر التنمية العمرانية والساحلية والحدودية جنباً إلى جنب مع التنمية السياحية، وخاصة تنمية السياحة البحرية والساحلية، وهذه الأخيرة، باتت من بين الأولويات الاقتصادية ذات الدعم الأمني والدفاعي والإداري عموماً عبر الجهود التنظيمية الحمائية التي تتبناها(هيئة البحر الأحمر السعودية) منذ تأسيسها في العام 2021م.
وما سبق يعني أنه كلما دب العمران في جنبات هذه المنطقة الحيوية والساحلية، تطلب الأمر حذراً أمنياً أكثر لمواكبة حجم المخاطر المحدقة بالأمن القومي السعودي، تلك التي تزداد حدة وتيرتها بفعل الاضطرابات الناشئة ضمن سياق المحيط الإقليمي القريب، وأيضاً بفعل اشتعال الموقف الدولي تجاه قضايا النزاع، وعدم قدرته على علاج تلك القضايا بشكل عادل ومستدام، وفي المقدمة من ذلك قضايا النزاع في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية وفلسطين، ما أدى إجمالاً إلى أن تلعب مصالح الغرماء المتضادة والمتصارعة دورها العسكري والحربي في استهداف التجارة الدولية المارة عبر البحر الأحمر ، ما تتكبد معه دول المنطقة خسائر اقتصادية وأمنية فادحة، تستوجب بدورها أن تتوسع المملكة في رؤيتها الأمنية ونطاقها الاستراتيجي، ربما أكثر من توسعها في رؤيتها الاقتصادية ونطاقها الاستثماري، أو على الأٌقل لابد وأن تتضافر الجهود الأمنية والاقتصادية على قدم المساواة، لتحقيق أكبر قدر من التوازن في منطقة تعج بالتحالفات والجنسيات والقوات.
اقرأ أيضاً: كيف تحوّلت السعودية إلى «صانعة السلام» في العالم؟
حسابات ومؤشرات
ولعل المتأمل للنتائج الاقتصادية والأمنية المترتبة على طبيعة الصراع الدولي والمصالحي في منطقة البحر الأحمر وما جاورها، يتبين له حجم الأعباء الأمنية والاستراتيجية الملقاة على عاتق المملكة العربية السعودية ضمن كافة الصعد والسياقات المرتبطة بهذا الصراع؛ إذ يتطلب الأمر من الرياض أن تكون متيقظه على الدوام من أجل ضبط ميزان التفاعل الإقليمي والدولي بما يحفظ أمن المنطقة وبالتالي أمنها وأمن مصالحها ومصالح شركائها التجاريين والدوليين والاستراتيجيين، ولكن رغم تلك اليقظة الدائمة، يبدو أن المستقبل القريب سوف يشهد احتياجاً شديداً لمضاعفة تلك اليقظة بشكل عملي يجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والنواحي الأمنية والعسكرية؛ إذ ستفرض ضربات الحوثيين الراهنة ضد المصالح الغربية تنسيقاً سعودياً أكبر براغماتية مع الجميع للوصول إلى معدلات آمنة من ضبط النفس وإطفاء نيران الحروب المشتعلة في المنطقة والعالم.
خاصة مع ما تسببه تلك الضربات، من إعاقة اقتصادات إقليمية لدولة بحجم مصر مثلاً، والتي تخسر حالياً أكثر من 40% من موارد قناة السويس البحرية بفعل التوترات الحادثة في جنوب البحر الأحمر، واضطرار السفن التجارية إلى تجنب المرور من القناة المصرية، بل إن تلك التوترات غالباً ما تساهم في نشوء اضطرابات أخرى في منطقة من أخطر مناطق التوتر في القارة الإفريقية، ألا وهي منطقة القرن الإفريقي، والتي باتت تنشط فيها عمليات القرصنة البحرية مجدداً، إضافة إلى أن مآلات الوضع السوداني مؤخراً، فرضت بدورها هي الأخرى، مشكلات بحرية مزمنة ضاعفت من الاحتياج للجهود السعودية الأمنية والعسكرية الوازنة في هذا السياق، خاصة وأن أكثر من 445 ميلاً من سواحل البحر الأحمر هي سواحل سودانية، ما يعني أن أي توتر الوضع السوداني من شأنه إضافة المزيد من تحديات المملكة فيما يخص استقرار الأمن البحري في تلك المنطقة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن خروقات التهريب الحدودي، وعلى وجه الخصوص خروقات تهريب السلاح، تضيف هي الأخرى تحدياً مماثلاً؛ حيث تؤكد التقارير الأممية وجود شبكات متخصصة في هذا النشاط، تمارس دورها التخريبي على الحدود البينية لليمن والصومال من جهة، وكذلك لليمن والسودان من جهة أخرى، وبالطبع لا يقتصر نشاط التهريب على الأسلحة فقط، وإنما يتجاوزه إلى تهريب الحبوب المخدرة أيضاً.
اقرأ أيضاً: خمس محطات ما بين الرياض وواشنطن خلال أسبوع.. ماذا جرى؟!
مخاطر مستدامة
وعلى الرغم من أن نزع فتيل الأزمات والحروب الدولية والإقليمية الراهنة، سيصب حتماً في تمكين المملكة من استرداد بعض مظاهر الاستقرار الأمني والاقتصادي في منطقة البحر الأحمر، إلا أن التأمل الوازن لطبيعة الحراك الاستقطابي والسياسي والأمني الاستراتيجي الموجه ناحية هذه المنطقة، يؤكد أن مخاطر البحر الأحمر ليست من قبيل المخاطر المرنة أو المؤقتة أو القابلة للتجميد والتلاشي في يوم من الأيام؛ ومن ثم، فإن توقف الحرب الروسية/الأوكرانية ومعها الحرب في عزة، لن يساهم إلا في الحصول على تهدئة نسبية مشوبة بالحذر فيما يخص الأمن البحري على سواحل البحر الأحمر، وذلك لما تموج به أنشطة قوى الصراع والاستقطاب في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج (ضمن سياقها الجغرافي الواسع) من تعارض الأهداف والمصالح والسياقات، ولعل هذه الاعتبارات هي التي تدفع باتجاه إصرار السعودية على تطوير منظوماتها الأمنية وتحلفاتها العسكرية وقدراتها التكنولوجية ذات الوجه الدفاعي، إذ أنها تدرك تمام الإدراك طبيعة الواقع المضطرب المحيط بالمنطقة والعالم، كما أنها تعلم جيداً مدى قابلية المنطقة للتشظي الأمني والسياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي في أية لحظة قد تكون فارقة وغير مأمونة العواقب، ومن ثم، فإنها تحاول جاهدة أن تلحق بركب الحصانة الأمنية والحدودية والبحرية، ودون تأخر أو إبطاء، مع الحرص المتزامن على رصد مستجدات المشهد العسكري والتقني والأمني وعدم التخلف عن إدراك تفاصيله الدقيقة.
وانطلاقاً من تلك الاعتبارات، حرصت القيادة السعودية على مدار العقد ونصف العقد الأخير، على رفع كفاءة القوات البحرية للحرس السعودي والأسطول الغربي المتمركز في مدينة جدة، بالتزامن مع الاستمرار في التدريب العسكري والمشاركة في المناورات البحرية المختلفة، وخاصة مع القوات متعددة الجنسيات وعلى رأسها قوات الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حرصت المملكة على تحسين بنيتها الدفاعية، وعلى الإفادة من هذا التحسين في تعزيز الأمن البحري المحلي والإقليمي والدولي عبر قيادتها الواعية للفرقة 152 المشتركة، وأيضاً عبر رفع القدرات الخاصة لقوات حرس الحدود، والتي باتت قادرة، عن ذي قبل، على تحجيم الخروقات البحرية والحدودية للمهربين والقراصنة، الأمر الذي تسعى المملكة إلى الاستمرار فيه والعمل على الارتقاء به مستقبلاً.
وعلى أية حال، ربما سيتعين على المملكة وفق منطلقات الضرورة الأمنية القصوى، أن ترفع من وتيرة استعداداتها الأمنية وتحالفاتها الإقليمية والدولية ضمن سياق استراتيجي أقرب إلى الجماعية منه إلى الفردية خلال المرحلة القادمة، ولعل محاولة التوسع في استقطاب أطراف إقليمية جديدة إلى تحالف البحر الأحمر للأمن الجماعي، وخاصة من الأطراف الخليجية ومن الدول الإفريقية المحورية في القارة السمراء، ربما سيكون من بين التوجهات المطروحة بقوة على الطاولة خلال السنوات القادمة، سعياً نحو استدامة الأمن البحري وحماية التجارة الدولية، وهو ما سيساهم غالباً ــــ حال حدوثه ــــــ في إرساء استراتيجية أمنية متكاملة تستطيع من خلالها المملكة ومعها حلفاؤها، الجمع بين فوائد الاقتصاد وفوائد الأمن والاستقرار كذلك، ومن جهة أخرى، ربما تطرأ مستجدات جماعية تخص الأمن الخليجي لتساهم بدورها الفاعل في تعزيز التحالف الخليجي/الخليجي أمنياً وفق منطلقات أقرب إلى التلاحم والتعاضد منها إلى الهيمنة والتنافس.
اقرأ أيضاً: أفضل شركات الاستثمار في السعودية لعام 2025